Al Jazirah NewsPaper Monday  16/08/2010 G Issue 13836
الأثنين 06 رمضان 1431   العدد  13836
 

نزِّه الطرف في جمال صلالة
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

ما أجمل أن يأخذ المرء قسطاً من الراحة بعيداً عن مشاغله اليومية في محيط يختلف عن المحيط الذي هو فيه! وما أبهج للنفس من أن يكون ذلك القسط من الراحة في وطن من أوطان أمته، وأن يكون مع أسرته الحبيبة إلى قلبه! وكان من حسن حظ كاتب هذه السطور أن أتيحت له فرصة قضاء أيام مع أسرته في محافظة صلالة قاعدة ظفار بعمان الجميلة بأهلها الكرام أولاً، وبما حباها الله من إحاطتها بسواحل ذات مناظر بهيجة وجبال غاية الروعة والأجواء الساحرة ثانياً.

كان من عادتي - مثل كثير ممن أسعد بمعرفتهم - عدم التخطيط لأسفاري للتمتع بالإجازة في مدة تتناسب مع ظروف حجز رحلات الطيران غير اليسيرة، أحياناً، في الصيف، لكن من توفيق الله أن يسر لي ذلك، وأن تكون الرحلة على الخطوط السعودية مباشرة من الرياض إلى صلالة، وأن يكون وقت السفر في وسط النهار بحيث كان المرء مرتاحاً في نومه ليلة ذلك اليوم.

كنت قد سعدت بزيارة صلالة مع ابنيَّ عبدالرحمن ومساعد قبل سنوات، وقضينا فيها أياماً ممتعة، كما ارتحنا إلى أهلها الكرام، الذين يتحلون بصفات نبيلة وسجايا فاضلة، وكان ابني، الدكتور صالح، قد زارها مع زوجته أيضاً، وأُعجبا بها، وكان هذا وذاك رصيداً معلوماتياً جيداً للأسرة في زيارتها الأخيرة إلى هناك. على أن ما أمدني به الصديق العزيز والزميل الحبيب، أبي عبدالرحمن إبراهيم الهدلق، من معلومات قيمة عن مختلف شؤون المنطقة، واتصاله بمن جهز لنا سيارة مناسبة وبمن هيأ لنا سكناً مريحاً.. كل ذلك كان خير معين لنا ومفيداً غاية الفائدة. ومن حسن الحظ أن كنت قد تعرفت على الأخ محمد المعشني من أهل طاقة الظفارية في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وهو صديق لكل من الأخوين العزيزين، الدكتور يحيى بن جنيد الأمين العام للمركز ونائبه إبراهيم الهدلق، وكان من كرمه ولطفه أنه كان في استقبالنا في مطار صلالة حيث سار بنا إلى محل إقامتنا في طاقة، وكان في استقبالنا أيضاً الكريم النبيل سعيد بن علي الذي تفضل عليَّ الأخ إبراهيم الهدلق بتعريفه بي، والذي ظل لطفه وكرمه رفيقين لنا طوال إقامتنا في تلك البلاد حتى ودعنا في مطارها.

وكان الأخ محمد المعشني يمرّ عليّ كل صباح، ويأخذني بسيارته إلى بعض مناطق الجبال الجميلة، ثم يذهب بي إلى مقهى في وسط البلدة لتناول الشاهي ولقاء بعض الإخوة الكرام من أهلها، وكان من أولئك الذين يتحلقون في المقهى من كانت لهم أدوار في الأحداث التي مرت بها المنطقة قبل عقود، فتجاوزتها بكل اقتدار بتوفيق من الله، ثم بالأسلوب الحكيم الرزين، الذي اتبعه ذوو الشأن في الأطراف المعنية بحيث حل الوئام التام بعد ما حدث من خصام. وكان في أحاديث تلك الجلسات الأخوية في مقهى من المقاهي الشعبية ما هو مفيد؛ ولاسيما لمن هو مثلي ممن له اهتمام بتاريخ تلك الحقبة من تاريخ أمتنا، ومعاصر لوقائع ذلك التاريخ.

ومن المعلوم لدى الكثيرين أن للشباب في أوقات الإجازات بالذات ترتيبهم الخاص بالنسبة لساعات النوم، هذا إذا كان هناك لديهم التزام أصلاً بساعات معينة. وهذه الساعات، ملتزماً بها أو غير ملتزم، مختلفة عن ساعات المسنين من أمثالي، الذين يصحون مع شقشقة العصافير، فكنا إذا ما استيقظ جميع أفراد الأسرة المتمتعة بالإجازة، وتناولنا فطوراً خفيفاً، ننطلق إلى جبال صلالة الساحرة بجمالها وجاذبية ما فوقها من نبات وحيوان. وكان من وجوه ذلك الجمال وتلك الجاذبية - إضافة إلى الخضرة والنسيم المنعش - رؤية مئات البقر المحلية المرغدة في مراعيها الغنية بالأعشاب، وهي - بهذه المحلية - تعيد لي صورة ما زالت تحتفظ بها ذاكرتي لذلك النوع من البقر الذي كان موجوداً في نجد من حيث الحجم، والاستمتاع بالرذاذ المتساقط أو اكتساء المنطقة بالضباب أحياناً. وضباب منطقة بكر، التي لم تعبث بها يد التلويث البيئي، مختلف عن ضباب لندن، مدينة الضباب مثلاً؛ فهو في تلك المدينة كاتم للنفس وفي جبال صلالة العذراء منعش للروح.

وإن قيل: إن حبي لهذه الجبال، التي هي مني وأنا منها، قد يجعل البعض يدعي بأن شهادتي مجروحة في هذه المقارنة؛ فتلك وجهة نظر محترمة، لكنها غير منصفة. أما بهجتي برؤية بقر جبال صلالة المماثلة للبقر التي كانت موجودة في نجد فمصدرها ليس في رؤيتي لها تسرح وتمرح بكل حرية فحسب بل لأن طعم لبنها وهي التي ترعى العشب على الطبيعة ألذ بكثير من لبن بقر المشروعات الجديدة.

ولقد رأيت بلداناً كثيرة في قارات مختلفة من العالم، وفي كثير من تلك البلدان ما هو رائع الجمال، غير أني أجد في صلالة، ساحلاً وجبالاً، الروعة التي ما زالت بكراً تخلب الألباب وتبهج النفوس. أما ما يكمل تلك الروعة جمالاً وبهجة فهو أهل تلك البلاد العمانية الظفارية؛ ذلك أنهم نعم الأهل؛ سجايا حميدة ونبل أخلاق وتعاملاً لطيفاً يشعر من يسعده الحظ بزيارة رحابهم المضيافة بأنه بين أفراد أسرته نفسها. وكان مما رأيت اختتام هذه السطور به ما يأتي:

نزِّه الطرف في ربوع صلاله

حيثما يبلغ الجمال كماله

ساحل أبدع المصوِّر منه

وقع أمواج بحره ورماله

وجبال وقت الصباح عليها

حين تبدو من الضباب غلاله

ومئات من نسل أُمَّات عوف

بين أجناسهن أحلى سلاله

يتبخترن في المراعي يميناً

وشمالاً كصاحبات جلاله

إيه والقوم في الإجازة كلٌّ

شدَّ للموطن الذي أراد رحاله

لم أجد ما يروق للنفس إلا

موطن ميَّز الإله رجاله

نهلوا من سلاف عذب السجايا

عبر مرِّ السنين حتى الثماله

وأنا العاجز المقصِّر فيما

سطَّرته أناملي في المقاله

والكريم الودود سمح السجايا

يقبل العذر دائماً لا محاله

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد