Al Jazirah NewsPaper Monday  16/08/2010 G Issue 13836
الأثنين 06 رمضان 1431   العدد  13836
 
بين الكلمات
قرار ضبط الفتوى..
عبد العزيز السماري

 

يُعتبر القرار الملكي لضبط الفتاوى تاريخياً بكل ما تعنيه الكلمة، فالمجتمع المسلم يتعرّض منذ عقود لفتاوى لا حصر لها، تختلف باختلاف الزمان، وتتعدّد صورها باختلاف السؤال، ولم يقتصر الأمر في ذلك، بل وصلت إلى أن تكون مادة دسمة للخلاف والانشقاق، وإلى اتساع دائرة المقدس، وفي أحيان أخرى تتناقض وتخرج بأكثر من حكم خلال العقد الواحد، وكان تأثير ذلك على المجتمع ظاهراً، فقد اعتاد الناس على طرح مختلف الأسئلة على المفتين، مما عطّل العقل وأفقده مهارات البحث والتعلُّم من البحوث والكتب..

وصل إطلاق الفتاوى إلى حد الظاهرة بعد انتشار وسائل الإعلام وتعدُّد قنواته، فقد أصبحت تشكِّل أحد أهم مصادر الدخل للوسائل الإعلامية، وارتفعت أجور المفتين ومفسِّري الأحلام إلى أرقام خيالية، مما أفقد الفتوى أهميتها، لتصبح مثل الخبر الإعلامي الذي تتداوله الوسائل الإعلامية، ثم يتم تكذيبه أو تصحيحه على طريقة النفي أو تصحيح سوء الفهم أو التراجع أحياناً..

لكن الأخطر في تلك الحالة كان في تداول فتاوى تدعو للقتل والإقصاء والتكفير، أي أنها أصبحت عند البعض مثل المنبر المقدس الذي يمنح معتليه السلطة الإلهية ليحكم من فوقها على رقاب المخالفين بحد السيف..، ومن خلال تلك الصورة كان لابد من وضع حدٍّ رسمي لتلك الفوضى في الفتوى، وقد يعترض أحدهم على ذلك التحديد، لما فيه من مخالفة للإرث السلفي، والذي يتميّز بحريته وعدم وجود مرجعية محدّدة له، لكن ذلك لا يجب أن يعني الجمود، فالعصر الحالي يتطلّب تأسيس مرجعية فقهية، وليس سلطة دينية، ويوجد مثيل لذلك، ففي أوروبا يوجد المجمع الفقهي الأوروبي، من أجل إعطاء إجابات وحلول لقضايا المسلمين في القارة الأوروبية..

ولكي يتحقق مجلس فقهي على مستوى عالٍ، لابد من تأسيس مجالس أو أقسام فقهية متخصصة في الشؤون العامة، وأن تكون لديهم القدرة على تقديم المشورة والعون للحكومة وللمجتمع. ولعل التحدي الأكبر يكون في ضبط عمل الفقهاء في البنوك، وأهمية إخراجهم ليعملوا ضمن إطار المرجعية الفقهية في الهيئة، وذلك لمنع اختلاط الخاص بالعام، فالبنوك في الوقت الحاضر تستغل أسماءهم من أجل أرباح أكثر، والمصرفية الإسلامية في الوقت الحاضر تعتبر أكثر ثقلاً على المواطن من غير الإسلامية.

حذر البعض من حصر الفتاوى في هيئة كبار العلماء، إذ قد يعني ذلك حسب رأيهم سلطة كهنوتية، لكن ذلك غير صحيح، فالكهنوت في الغرب كان يملك زمام السلطة، ويتصرف بمصالح الناس، والسلطة في الإسلام السني مدنية، لكن الغرض من هذا القرار التاريخي ضبط الفتوى، والحد من الفوضى الحالية، لكنه لن يمنع الإنسان من أن يحصل على الفتوى في قضاياه الخاصة عبر سؤال أهل العلم في هذا الشأن أو من يثق بهم.

أدّت كثرة الفتاوى إلى تضخم دائرة الدين، وإلى إعادة الاعتبار إلى فتاوى مجهولة وأحكام غير صحيحة، وتتشابه المرحلة الحالية مع ما حدث في القرن الثاني الهجري، عندما أصبح الرواة يرددون الحكاوي والقصص المغلوطة والأحاديث غير الموثقة في الطرقات والزوايا عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان لذلك سوق رائجة ومجالس لا ينتهي الجدل فيها، ليأتي القرار التاريخي للخليفة عمر بن عبدالعزيز لتدوين الحديث الصحيح، والذي أوقف عصر الحكاوي عن الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى عصر تصحيح الأحاديث، ومع ذلك استمر الجدل حول الحديث وصحيحه لقرون أدت كثرة الصحاح وكتب الأحاديث إلى تضخم دائرة الاجتهاد في الدين وتفرعه في مختلف تفاصيل الحياة، وما يحدث في الوقت الحاضر من انفلات في الفتاوى زاد من اتساع المقدس، وهو في حقيقة الأمر نتيجة مباشرة لكثرة كتب الصحاح والأسانيد في الحديث ولازدياد الوعي والقدرة على الاطلاع على محتوياتها.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد