رغم أن سفر الناس في أزمنة قديمة، كان على الأرض وحدها، فما عرفوا على اليابسة؛ غير ركوب أقدامهم، أو امتطاء دوابهم، أو أن يستقلوا السفن الشراعية إذا اختاروا السفر بحراً.. رغم ذلك، فقد عبروا عن معاناتهم، وأفصحوا عن المخاطر
|
التي كانت تتربص بهم طيلة رحلاتهم، فإذا نجوا من غائلة الجوع والعطش، لم يسلموا من الوحوش أو اللصوص، وإذا هادنهم البحر وصافاهم، فقد يصطادهم قراصنته، أو تبتلعهم حيتانه.. إلى ما هناك من فواجع ومواجع، مع أن السفر في حد ذاته، متعة ليس لها حدود، ولحظة عمرية، لا يشبهها غيرها في حياة الإنسان، ولهذا رأينا كيف أن الإمام الشافعي رحمه الله (ت 204هـ)، احتفى بهذه المحطة العمرية، التي تجلب لصاحبها منافع جليلة، وتكسبه فوائد عظيمة، فهي إلى جانب تفريجها لهمومه، تكسبه معيشة، وفيها له علم وآداب وصحبة ماجد، هذا.. لمن أراد وحرص عليها بطبيعة الحال.. قال:
|
تغرب عن الأوطان في طلب العلا |
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد |
تفريج هم واكتساب معيشة |
وعلم وآداب وصحبة ماجد |
فإن قيل في الأسفار ذل وغربة |
وقطع فيافٍ وارتكاب الشدائد |
فموت الفتى خير له من حياته |
بدار هوان بين واش وحاسد |
بالمقابل، جاء من ينقض خمس الشافعي هذه بسبع، وهذا هو القاضي الطرطوشي، (ت 520 هـ)، الذي رأى غير الذي رآه الشافعي، وعدد بعضاً مما أشرنا إليه من أخطار ومتاعب لا يخلو منها سفر، براً كان أو بحراً على عهد الشافعي والطرطوشي طبعاً، كيف لا، والقرآن الكريم، فيه إشارة واضحة إلى متاعب السفر. قال تعالى: {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} (الكهف62)، في قصة سيدنا موسى عليه السلام وفتاه يوشع بن نون، وركوبهما البحر. وفي الحديث الشريف قوله صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه: (السفر قطعة من العذاب).. يقول القاضي الطرطوشي:
|
تخلف عن الأسفار إن كنت طالبا |
نجاة.. ففي الأسفار سبع عوائق |
تنكر إخوان وفقد أحبة |
وتشتيت أموال وخيفة سارق |
وكثرة إيحاش ٍ وقلة مؤنس |
وأعظمها يا صاح سكنى الفنادق |
فإن قيل في الأسفار كسب معيشة |
وعلم وآداب وصحبة فائق |
فقل ذاك دهر تقادم عهده |
وأعقبه دهر كثير العوائق |
وهذا مقالي والسلام مؤبد |
وجرب ففي التجريب علم الحقائق |
أما وقد حلت وسيلة رابعة بعد السيارات، للسفر بين البلدان عبر الفضاء، فوق البر والبحر، وهي الطائرة التي تعتمد على دفع الهواء في سيرها المحفوف بكل المخاطر، وأصبح لها محطات ومطارات تطير منها وتهبط فيها، فماذا كان يقول القاضي الطرطوشي، لو أنه قام من قبره في زمننا هذا، ليركب طائرة من دمشق أو بغداد إلى مدينته الذي ينسب إليه (طرطوش) في أرض الأندلس..؟!
|
* إن منغصات السفر جواً أكثر من أن تحصى، وهي تزداد يوماً بعد يوم، وفي منطقتنا العربية، يلاقي المسافرون جواً الأمرين من شركات نقلهم الجوية، فلا المواعيد دقيقة، ولا المطارات لائقة، ولا الخدمة الأرضية والجوية كافية، ولا يوجد أدنى احترام لإنسانية البشر الذين يدفعون الكثير، فلا ينالون بالمقابل إلا أقل القليل.
|
يقول صديق عائد من سفر لتوه: في مطار كازبلانكا على سبيل المثال، أخرجتنا مكاتب المغربية مساء يوم الاثنين 26 يوليو الفارط من صالات الانتظار إلى حيث مهبط الطائرة على ثلاث حافلات، ولكن حينما وصلنا إلى مهبط الطائرة الافتراضي، لم نجد طائرة ولا ما يحزنون، فأعادونا إلى الرصيف المحاذي للبوابات بحجة عدم وصول الطائرة، ومكثنا قرابة ساعة على الرصيف، دون أي اعتذار أو تعويض، ولو كنا في دولة أوروبية، لقوبلنا بمعاملة أفضل وبتعويض مجز.
|
وأم المتاعب في مطاراتنا العربية هي الزحمة الشديدة، والانتظار الممل، وطلب الرشوة من قبل كل أحد.. أكثر هذا تجده في ثلاثة مطارات كبيرة، هي مطار دمشق، ومطار القاهرة، ومطار كازبلانكا. إذا لم تملأ جيوبك بالنقود، فلن تعبر بوابة فحص الحقائب، ولا بوابة الجوازات، ولا بوابة الجمارك، وسوف تجد من يعبث بحقائبك، ويماطل في دخولك، ويفتش في ملابسك الداخلية، حتى تدفع صاغراً، أو تقبع مع من تأخروا عن رحلتهم بفعل فاعل.
|
* العجيب في هذا الأمر، أنه يحدث لك عند القدوم وعند المغادرة على حد سواء، وأن هناك أدراجاً تفتح أمامك لوضع المخصص، فإن لم تفهم هذا الإيحاء المؤدب، سوف تسمعه من فم صاحبه دون خجل أو وجل أو حياء..! تسمع: (كل سنة وأنت طيب)، و(شي حاجة)، و(هون.. هون)..!!
|
في السنوات الأخيرة، شاعت أخطاء كثيرة، وبرزت ظواهر مقززة ومنفرة، فتأخير الرحلات كثير، والتعامل في المطارات مستفز، حتى أنك تستعيذ من شياطين الإنس والجن وأنت تلج مطاراً من هذه المطارات، حتى لا تفاجأ بخطأ في الحاسوب يلغي حجزك، أو يتأخر موعد الإقلاع زيادة عما ألفناه وهو بالساعات، كما يحدث مع الخطوط السعودية في رحلاتها الداخلية بشكل خاص، أما إذا اقتربت من موظفي الجوازات والجمارك وخطوط الطيران في المطار، فعليك أن تقرأ آية الكرسي والمعوذات، وتترحم على أيام زمان، وطيران زمان، ورجال زمان، الذين يستقبلونك ببشاشة، ويودعونك بابتسامة.
|
ماذا يمكن أن يقال؛ عما نلاقيه اليوم في وطننا العربي الكبير، من طائراته ومطاراته، غير أنه (العذاب) الذي لا نستحقه..؟!
|
|