رمضان ضيف سار حولاً كاملاً |
حتى رآك مسلماً فاستبشرا |
حياة الإنسان السوي كلها ذكريات، ومواقف متنوعة، وتختلف أهميتها وحلاوتها وطول مكثها في مستودع الذاكرة، وفي طوايا النفس وقوة التأثر الحسي الذي يجول في خواطره ....
|
....الوجدانية، ويتردد أصداؤه في ميادين العمر وفي واحاته الرحبة...، غير أن الذكريات الرمضانية لها مكانتها في نفوس الأمة الإسلامية عامة، وبالنسبة للأطفال وصغار السن لها مذاق خاص يطيب لها أن تقيم في شعاب نفوسهم ولا تنسى مدى الأزمان، فهم يفرحون بمقدم شهر رمضان المبارك ولياليه المقمرة بكل شوق ومسرة، فكله خير وبركة يشاركون أهليهم في صيامه وقيامه، وإن لم يبلغوا سن التكليف وإنما محاكاة ومجاراة لوالديهم وإخوتهم الكبار ومن حولهم، وإن لم يكملوا أيام صيامهم، ويعتبر ذلك تدرباً وتعوداً حتى يكبروا، فيحسوا في نفوسهم أنه شهر مبارك لا كغيره من الشهور يرون أسرهم يكثرون التعبد وتلاوة القرآن الكريم ليلاً ونهاراً، وقد بدأ الخشوع والوقار والسكينة، ويزداد هدوء الطبع لديهم، وفي حسن التعامل معهم ومع غيرهم مما يوحي إلى صغارهم بقدسية هذا الموسم العظيم الذي تضاعف فيه الحسنات وتقال العثرات، وفيه ليلة مباركة ليلة القدر خير من ألف شهر، وسيكون لذلك أبلغ الأثر مبكراً في عقولهم وفي طوايا نفوسهم، وفي سلوكهم الأمثل الذي يستمر معهم -بحول الله- طول حياتهم، فالقدوة الحسنة الصالحة من الوالدين، ومن الأسرة عموماً تجعل البراعم الغضة تسير مسار والديهم بما يرضي الله سبحانه وبتمسكهم بهدي سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد أحسن الشاعر حيث يقول:
|
وينشأ ناشئ الفتيان فينا |
على ما كان عوده أبوه |
ومن جهة أخرى فإننا معشر الصغار -آنذاك- نسر بتغيير نمط الغذاء والمشروبات في شهر رمضان المبارك، وان كانت الأشربة محدودة النوع تتكون من مريس التمر مع الأقط، أو مع الأترنج والليمون...، ليساعد ذلك على ترطيب أكباد الصائمين -ولا سيما في مواسم الصيف الحارة- لتطفئ لهيب الظمأ المجفف للهاء ...
|
كما يكون بجانب تمرات الإفطار شوربة محلية، وبعض الفطائر واللقيمات المنزلية، أما العشاء فبعد صلاة التراويح، وفي أثناء الشهر يحصل لنا أكلة لحم مرة أو مرتين فقط يسمى (عشاء الوالدين) وذلك لندرة النقود وقلة المال بأيدي أوائلنا...، وليست حسابات البنوك واسعة الانتشار الآن على مقربة منهم فيقال:
|
هو البحر فازدد منه قرباً |
تزدد من (الفقر) بعداً! |
وفي أثناء صلاة التراويح تجد الواحد منا يذهب إلى أكثر من مسجد فيصلي مع هذا ركعتين وذاك ثلاث تسليمات وهكذا لتقارب المساجد بالأرياف والقرى، حتى يأتي دعاء القنوت الذي نأنس بتكراره: آمين آمين، فلو سمعنا بعد ذلك دعاء القنوت في مسجد آخر لأسرعنا نحوه لنستمتع بترديد التأمين ...، وبعد ذلك نقضي جزءا من الليل في مزاولة بعض الألعاب الشعبية، أو نستمع لبعض القصص والأحاجي ممن يكبرنا سناً، وفي العشر الأواخر نحرص على أن نصحو ونذهب مع والدينا أو أحدهما لصلاة القيام على أمل أن يحصل لنا فنجاناً أو بيالة من الحلو (أي الشاي) الذي يدار على المصلين بعد الركعتين الأُول ليتجدد نشاطهم في بقية الركعات فنجد في ذلك متعة لا مثيل لها. وقبل العيد بيومين يأتي دور طلب «الحوامة أي العيدية» فاليوم الأول يكون حوامة البنيات واليوم الثاني للصبيان، فنقوم بمسيرة جماعية أو فرادى طالبين من ربات البيوت عيديتنا أي حوامتنا، وهي عبارة عن قليل من الحمص أو الفتيت أو شيء من حبات القرع أو جمع كف من (الشكر) أي السكر نصره في طرف الغترة لليلة العيد، وأكثر ما يكون ذلك من حبات القمح «يسمى سهو» بعد نقعه في الماء ثم يحمس ليسهل قرضه وأكله، وهو جهد المقلين...، فيتكون معنا في ذلك اليوم كمية متنوعة من حصيلتنا، فنقتطع جزء منها لليلة العيد لنتسلى بها، وقد نتعرض أثناء تجوالنا لبعض قراصنة الطريق -آنذاك- ممن يكبرنا من الصبيان فيأخذوا ما يجدوه معنا بالقوة، فيضل هاجس الخوف مصاحبا لنا أثناء تجولنا، وهذا يذكرنا بمعنى قول الشاعر:
|
لا طيب للعيش مادامت منغصة |
لذاته بإدكار (الخوف والنصب) |
فكلما أرى الآن فرداً من بقايا تلك العصابة البائدة.. التي كانت تترصدنا وقد علاه الكبر وبدأ ظهره في الانحناء...! فإنه يرتجف قلبي لا شعورياً متذكراً نهبه جزءًا كبيراً من عيديتي -سامحه الله- وفي ليلة العيد يحلو السمر مع لداتي وأبناء الجيران، وقد أحضر كل واحد منهم ما تيسر مساهمة في القطة وتعتبر تلك الليلة من أجمل ليالي العمر وبعد صلاة الفجر نجمع دمن الآبال ونوقد عليه النار حتى يشتد جمره، وقبل أن يرمد نضعه على حجر منبسط ثم نضربه بحجر آخر حتى يكون له صوت مدوي يشبه ما يفعله الصبيان في هذا الزمن من رمي الشروخة إعلاناً لفرحة العيد، ففي الصباح يستعد الجميع للذهاب لصلاة العيد وكل قد لبس الملابس الجديدة مبتهجين لمصلى العيد الذي يكون خارج البلد عادة فنرى الصغار والكبار في مسيرة مبتهجين يتبادلون السلام وتحايا العيد، ثم يرجع الجميع لتناول وجبة العيد التي تكون عادة من (الجريش المعطر بالسمن البلدي) وبعد ذلك نتجه إلى مواقع الترفيه حيث نتبارى في الرماية ونقضي أجمل الأوقات في ذلك حيث قد ورد في الأثر: (أرموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً) فذكرياتنا في رمضان كلها مجتمعة وباقية في خواطرنا أمد العمر كله، ومما يؤثر عن بعض العُباد الأفاضل تشوقه لهلال شهر رمضان قوله بعد شكره لله (ولو كان رمضان في بلد آخر لشددنا الرحال إليه والحمد لله أنه يأتينا)، وهذا من فضل الله وإنعامه علينا وعلى جميع المسلمين في بقاع الدنيا وهذا يدل على شدة حرصه ليكسب الآجر فيه مضاعفا، فالعم عبد الله بن قضيب صافي القلب هو صاحب هذا الشعور الطيب -تغمده الله بواسع رحمته- أدام الله علينا الخيرات وأعاد علينا الأعياد باليمن والبركات، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
|
|