منذ فترة خطر لي أن اكتب مقالاً عن مستقبل السيادة الأممي الذي أرى أنه يتحور بفعل التغيرات الجيوسياسية والثقافية والتقنية المتسارعة لصورة غير معهودة، وكنت أخشى أن لا أوفق في التدليل على تصوري بوقائع محسوسة، فأهملت تلك الخاطرة زمناً، ومنذ أيام أعلن عن نية كل من السلطات السعودية والإماراتية توقيف خدمات مراسل البلاك بيري وذلك بعد تعذر التزام شركة ريسريش إن موشن Research In Motion مصنعة ومقدمة خدمة البلاك بيري بمتطلبات الأمن المعلوماتي التي تحددها سلطات الدولتين، وقبل ذلك شبت أزمة بين شركة جوجل Google والحكومة الصينية حول قيام تلك الحكومة بمراقبة البريد الإلكتروني لبعض مشتركي بريد جي ميل Gmail، هذان الحدثان يمثلان أحد التغيرات التي ستتولى في المستقبل لتنتقص من السيادة الوطنية للدول، فالشركتان العالميتان تقمصتا حقاً سيادياً لهما وتمثلتا رعاية سيادية لحقوق مشتركيهما تنازع سيادة الدول الأممية، وفي أحوال تماثل هذا التصرف ولكن بصورة أقل، تقوم كثير من المنظمات غير الربحية التي تسمى أيضاً المنظمات غير الحكومية NGOs بمقارعة سيادة بعض الدول وجدال قوانينها أو تصرفاتها تجاه مواطنيها أو بيئتها، وحتى التقاليد الشعبية والمعتقدات الدينية لم تعد محصنة من النقد والمطالبة بالتغيير، هذه النشاطات لهذه المنظمات ستتصاعد في المستقبل وسيكون تأثيرها أقوى بعد فشل سياسات التنمية التي تنتهجها بعض الحكومات، وستكون بداية تغيير في مفاهيم عهدناها ثابتة المعنى كالسيادة كمفهوم، والأمة كمفهوم، والنطاق السيادي، والمواطنة كمفهوم.
تعودنا أن نعرف أنفسنا بتعاريف تعبر عن انتماءاتنا العرقية والتراثية والدينية والجغرافية، فنحن عرب ونحن مسلمون ونحن سعوديون أو غير ذلك، وكل من تلك التعريفات تحقق لصاحبها مكتسبات وتحمله مسؤوليات، وفي العصر الحديث تبلور مفهوم المواطنة، وهو تعبير عن الانتماء لدولة جغرافية لها سمات ثقافية تقوم برعاية مصالح أعضائها المواطنين، وتشكل لذلك جهازا إداريا يقدم الحماية والرعاية والخدمة لجمهور المواطنين، وتتمتع تلك الدولة بنطاق سيادي يمثل حدودها الجغرافية وموروثها الثقافي وتأثيرها العالمي اقتصادياً وفكرياً.
هذا التعبير للمواطنة بات رهن التغيير حديثاً، فلم تعد الدول كحكومات تتماثل في تعريف المواطنة، فحين تلزم بعض الدول مواطنيها بقدر أكبر من القيود النظامية والفكرية وتجعل من الحكومة عائلا للمواطن وولي أمره، نجد حكومات أخرى تفتقد تلك السلطة على مواطنيها، بل إن المواطنين هم من يشكل توجهات تلك الحكومات وتبعاً لذلك يتمتع مواطنوها بحريات أكبر وسلطة جماعية على الحكومة، هذا التمايز في المفهوم خلق ميدانا رحبا للتغير، فعلاقة المواطن الفرد بحكومة الدولة تجتذب كثيرا من الجدل والنقاش في صورة طروحات فكرية لتصوير العلاقة الأمثل التي تحقق للفرد وسائل السمو الحضاري والحرية وتضمن قوة الكيان الأممي، هذا الجدل المتصاعد حول دور الحكومة وسلطتها شكل ضغوطاً متزايدة على الحكومات لتتخلى عن كثير من وظائفها ونشاطاتها لصالح قطاعات جديدة مثل شركات القطاع الخاص الربحيةBusiness Corporation، التي نما بعضها بصورة كبيرة باتت جهازاً أضخم من بعض الحكومات، والمنظمات غير الحكومية NGOs التي باتت توجه نشاطها في معظمه لمقارعة الحكومات ونقد نشاطاتها، وقد تكاثرت هذه المنظمات في بعض البلدان حتى باتت تعد بالآلاف.
مع تضخم الشركات الربحية Business Corporation خصوصاً تلك التي تعمل في نطاق الخدمات كالاتصالات والمالية ونمو أجهزتها الإدارية وتعدد نطاقاتها الجغرافية، أضحت عالمية الوجود وبات لها ممارسات تهدد سلطات حكومات الدول التي تعمل ضمنها، وباتت تتمثل حقوق لعملائها ترعاها وتدافع عنها، وهي تمارس ذلك من قبيل تحقيق رضى العملاء وتحسين خدماتها لكسب ولائهم، وهي تدرك أن ممارستها تلك قد تتعارض مع سلطة الحكومة، ولكنها توظف قدرتها العالمية وتأثيرها الاقتصادي والسياسي للاستقواء على تلك الحكومات، وقد تحقق بعض النجاح الذي توظفه لتحقيق سيادة أكبر في نطاق أوسع. هذا التعدي الذي تقوم به تلك الشركات على حقوق الحكومات السيادية لم يكن ليتحقق لولا التغير في مفهوم النشاط الرأسمالي Capitalism الذي بات يطلق عليه مؤخراً نظام الأعمال الحر Free Enterprise System الذي نظم تحرير النشاطات الاقتصادية لتزدهر في صورة عالمية وتخلق كيانات كبيرة، ونتيجة لتطوير قوانين مكافحة الاحتكار وتشجيع التنافس وتحرير التجارة العالمية بات المجال رحبا لكثير من الشركات العالمية لتحقيق مكاسب كبيرة في صورة أرباح ونفوذ وحقوق.
عندما كان الفكر الرأسمالي يعتمد على فلسفة الشطارة في التجارة، كانت الشركات الرأسمالية تعتمد أساليب الاحتكار والامتياز والتجسس الصناعي ورشوة أصحاب النفوذ والتسلط على العمال وتهمل وتتنصل من مسؤوليتها تجاه المجتمع والبيئة، ولكن هذا الفكر لم يستطع أن يصمد أمام حركات التطوير والتنمية الاجتماعية وبروز قوانين تنظيم التنافس الشريف ورعاية حقوق العمال والمشترين للخدمات والسلع، فكان لا بد لهذا الفكر أن يتحور بصورة يستجيب معها للتغيرات التنظيمية والاجتماعية ليستمر في بناء ورعاية المؤسسات الربحية، وحتى يكون على قدر كبير من الفاعلية والتأثير اعتمد على بناء وترسيخ أربعة مفاهيم رئيسة هي:
- تقويض القيود الحكومية والحمائية وتحرير النشاطات الاقتصادية من سيطرة الحكومات.
- ترسيخ احترام الحقوق الفكرية وتجريم التقليد والنسخ وحماية براءات الاختراعات.
- تكوين ودعم مؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية في سبيل قيادة التغيير الاجتماعي والبيئي.
- ترسيخ مفهوم الكفاءات والفاعلية والحد من الهدر في المواد والجهود في سبيل تعميم القدرة على شراء الخدمات والسلع.
هذه المفاهيم الأربعة مهدت الطريق لكثير من الشركات الربحية للنمو بصورة هائلة فنجد شركات مثل وول مارت Walmart و»قوقل» Google وجنرال اليكتريك General Electric بات دخلها يفوق إجمالي الناتج المحلي لمتوسط دول العالم، وبات لها ملايين العملاء الذين تحتفظ بسجلات لهم، وحتى تكون الشركات الربحية أقدر على تحقيق أهدافها، بات لها استراتيجيات طويلة المدى تعتمد على آليات متعددة منها التأثير في مراكز اتخاذ القرارات لحماية مصالحها من القرارات الحكومية والاعتماد على مؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية لصياغة السلوك الاجتماعي وتهيئة المجتمعات التي تنشط فيها الشركات الربحية وتكوين قيم جديدة لتلك المجتمعات أو تفعيل قيم مندثرة، فباتت تلك الشركات تمول مؤسسات المجتمع المدني التي تخدم نشاطاتها بصورة غير مباشرة وأهم نشاطات تلك المؤسسات، هو سلب الحكومات بعضا من خصائصها، ومن الأمثلة على ارتباط تلك المؤسسات باستراتيجية مدروسة لإحدى الشركات، هو قيام إحدى كبريات شركات توزيع ألعاب الأطفال في الولايات المتحدة، بدعم متواصل لمؤسسة غير حكومية نشاطها ينصب في حماية الأطفال من تعسف ذويهم بما في ذلك الوالدان، هذه المؤسسة تنشط في الدعاية لسن قوانين تحد من الممارسات التربوية القسرية للأطفال التي يمارسها الأهل، وهدف هذه المنظمة المعلن هو حماية الأطفال من العنف الأسري، ولكن المنتج الثانوي لهذا النشاط، هو تمكين الأطفال من النشوء على نمط متمرد على السلطة الوالدية، وخلق بيئة صراع بين حاجة الأهل لضبط سلوك الطفل والتقيد بأحكام القوانين الحامية له من التعسف، فيكون سبيل الأهل لكسب ولاء الطفل هو زيادة ميزانية الترفيه والتسلية، وهو ما يمثل خلق سوق متسعة لشركة توزيع الألعاب، هذا مثال للعديد من النشاطات التي تقوم بها تلك المؤسسات غير الحكومية وارتباطها بشركات ربحية تخدم أغراضها.
بعد هذا العرض لاشك أن هناك تساؤلا، هل هذا الحال جيد أم سيئ للأفراد والمجتمع بصورة عامة؟ والجواب انه جيد على المدى القريب، حيث ستتخلى الحكومات عن كثير من النشاطات لمؤسسات خاصة أكثر فاعلية وأقل بيروقراطية، كما ستتخلص المجتمعات من التحكم البيروقراطي الأبوي للحكومات؛ مما يحقق لها خدمات وسلعا متعددة ورخيصة ومتنافسة، ولكن على المدى البعيد سترتهن تلك المجتمعات لإرادة الشركات الربحية التي ستتعامل مع مكونات المجتمع من خلال قدرتها على تحقيق الفائدة لها، لذا سيفتقد المجتمع تلك الخدمات المجانية التي يحصل عليها الجميع خصوصاً الفئات المحتاجة، أي أن قانون البقاء للأفضل سيسود نمط الحياة والمعيشة، وهدفي من هذا المقال ليس التأليب على منهجية نظام الأعمال الحر، ولكن التنبيه إلى أن الحكومات التي لا تكون نشاطاتها وقوانينها مكونة بإرادة المواطنين ولتحقيق الحماية والرفاه للمواطنين وبرقابة المواطنين هي حكومات في مهب الريح، فمعايير المواطنة اختلفت وستكون المواطنة لمن يحقق مصالح المواطنين بصورة محسوسة وفاعلة.
M900m@gmail.com