رجل أسر بقراءته القلوب! وطار بالأرواح إلى علام الغيوب! إنه محبر القرآن! وموقظ الوسنان!! وظاهرة الزمان التي لا تتكرر إلا كل قرن أو قرنين!! رجل عندما بدأ بث قراءته في المذياع تضاعف شراؤه في الأسواق!! رجل إذا قرأ القرآن وقف الجميع له مجلاً مكبراً مسبحاً مهللاً!! تربع على عرش الترتيل أكثر من نصف قرن ولا يزال!!
إنه صاحب الصوت الشجي، والتحبير الندي، والصوت الملائكي، إنه المقرئ الشيخ عبدالباسط عبدالصمد - رحمه الله - مصري، ولد في قرية (أرمنت) إحدى محافظات (قنا) بمصر، عام 1927م، في بيت علم وقرآن، حفظ القرآن ولم يناهز العاشرة! وحفظ الشاطبية في القراءات، ولما بلغ الثانية عشر من عمره انهالت عليه الدعوات من كل حدب وصوب!! فأهدته الإذاعة المصرية للعالم بأسره!! دُعي في بداية نبوغه لاحتفال كبير، وخُصّص له فيه (10) دقائق فقط، فلما شرع في قراءته ابتهجت القلوب! وخشعت الأصوات! وانبهر الحضور! وخيّم الصمت! ووجمت القلوب لهذا الفتى الذي أسر الأسماع بصوته الشجي!! فامتدت الدقائق العشر إلى ساعة ونصف الساعة!! وبقي لبرامج الحفل (10) دقائق فقط!!
فسبحان من لو أنزل هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله! لقد حق لهذا الأسطورة أن يخصص له بكل إذاعة من إذاعات القرآن وقت يليق بجنابه وأمثاله.. فهو القارئ الذي لا يختلف في حبه شخصان!!
زرت مصر ذات مرة فوجدت أغلب المحال التجارية الكبيرة لا تفتح يومها الصباحي إلا بقراءاته! بل كثير من دول العالم الإسلامي رأيتها وسمعتها كذلك!!
انتقل من الإقليمية المحلية إلى العالمية، هو القارئ الوحيد الذي يُشهر المنابر والجوامع التي يتسنمها وليست هي التي تُشهره!!
لما سطع نجمه وذاع صيته انهالت عليه الدعوات من جميع أنحاء العالم بمناسبة وبلا مناسبة!! فمجيئه هو المناسبة بعينها!!
كان - رحمه الله - يُستقبل دولياً على المستوى الرسمي، والقيادي، والشعبي استقبالاً حافلاً عظيماً!! واستقبله بعض رؤساء الدول في المطارات، وتقلَّد أعلى الأوسمة منهم!!
زار (إندونيسيا)، أكبر حواضر العالم الإسلامي، فقرأ في أكبر جوامعها (أكبر جامع في الشرق الأوسط) فاكتظ الجامع بالحضور، وامتدت الصفوف مسافة كيلومتر خارج الجامع، والناس وقوفاً على أقدامهم حتى بزغ الصباح!!
أمَّ المصلين في الحرم المكي، والمدني، والمسجد الأقصى، والجامع الأموي، والإبراهيمي، وفي أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وأكثر دول العالم.
كان سبباً لهداية كثير من الخلق في المعمورة، فتح الله به أعيناً عمياً! وقلوباً غلفاً! وآذاناً صماً! كان يسافر بالقلوب ويطير بها إلى الله والدار الآخرة!! فيا ترى متى نسمع من إذاعات القرآن لدينا وفي العالم الإسلامي من يجعل له نصيباً من الوقت يليق بقراءته؟ ليكون بديلاً لبعض القراء الذين إذا قرؤوا القرآن سرح المستمع وجال فكره ذات الشمال وذات اليمين!!
كان - رحمه الله - يتمثل أمر الله تعالى بقوله: (ورتل القرآن ترتيلا) ووصية النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً). نعم، لقد رتل القرآن ترتيلا، ونحسبه - والله حسيبه - أخذ بوصية ابن مسعود حيث قال: (لا تهذوا القرآن هذا كهذ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة!!).
جاء في الحديث الصحيح أن الصحابي (أبا موسى الأشعري) أجاد ترتيل القرآن فقال عنه عليه الصلاة والسلام: (لقد أوتي مزماراً من مزامير آل داود). و(داود) هو نبي الله الكريم الذي قال الله عنه: (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير..) قال العلماء: كان إذا ترنم (الزبور) تقف الطيور في كبد السماء فتجاوبه!! وتردد عليه الجبال تأويبا!!, ويسميه اليهود (ديفيد).. فكامب ديفيد.. أي خيمة داود!!
توفي - رحمه الله - بمرض السكر والتهاب الكبد في 30-11-1988م، وحضر جنازته جميع سفراء العالم بمصر، وسارت جنازته في موكب مهيب! فقدت به الأمة الإسلامية عَلَمًا من أعلامها النذر.
فرحمه الله رحمة واسعة, وقدّس الله أمة أنجبته، ومِلّة هذبته، وأسبغ على ضريحه شآبيب الرحمة والغفران، وعوض الله الأمة بمثله وخيراً منه.. والسلام عليكم.
د. علي بن محمد الحماد
رياض الخبراء