لعقود من الزمان، ظلت الجامعات المتخصصة في البحث العلمي في الولايات المتحدة تحظى بالاعتراف العالمي بوصفها الرائدة على مستوى العالم في مجالات العلوم والهندسة، وهي الجامعات غير المسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية من حيث حجم وتميز المنح الدراسية والإبداع الذي تضمنه. ولكن هناك دلائل متنامية تشير إلى أن بقية بلدان العالم آخذة في اكتساب الأرض بسرعة - من خلال بناء الجامعات الجديدة، وتحسين الجامعات القائمة، والمنافسة القوية للفوز بأفضل الطلاب، وتوظيف حاملي الدكتوراه الحاصلين على تدريبهم في الولايات المتحدة لإعادتهم إلى ديارهم للعمل في المختبرات الجامعية والصناعية. تُرى هل أصبح النظام الأكاديمي الدولي المهيمن على وشك الانقلاب؟لا شك أن المؤسسات الأكاديمية أصبحت عالمية بشكل متزايد، ولا سيما في مجال العلوم. فالآن يدرس ما يقرب من ثلاثة ملايين طالب خارج بلدانهم الأصلية - وهذا يشكل زيادة بنسبة 57% أثناء العقد الأخير. والآن يهيمن الطلاب الأجانب على العديد من برامج الدكتوراه الأميركية، حيث يمثلون 64% من درجات الدكتوراه في علوم الحاسب الآلي على سبيل المثال. ومؤخراً تفوقت جامعة تسينجهوا وجامعة بكين معاً على بيركلي باعتبارهما المصدر الأول للطلاب الذين يسعون إلى الحصول على درجات الدكتوراه الأمريكية.وفي الوقت نفسه، سنجد أن أعداداً متزايدة من بلدان المصدر التقليدي للطلاب، كوريا الجنوبية والمملكة العربية السعودية على سبيل المثال، تحاول تحسين كم وكيف الدرجات العلمية التي تقدمها، فتنخرط في سبيل تحقيق هذه الغاية في سباق شرس - وباهظ التكاليف - لاجتذاب الطلاب وتأسيس جامعات بحثية عالمية المستوى.ولقد أسفرت كل هذه المنافسة عن قدر عظيم من الضيق في الغرب. فأثناء إحدى زياراته في إطار حملته الانتخابية في عام 2008، تحدث المرشح الرئاسي آنذاك باراك أوباما بنبرة منزعجة عن التهديد الذي تفرضه مثل هذه المنافسة الأكاديمية على القدرة التنافسية للولايات المتحدة، فقال: «إن كنا راغبين في مواصلة صناعة سيارات المستقبل هنا في أميركا، فلا يجوز لنا أن نشاهد أعداد حاملي درجات الدكتوراه في الهندسة تتصاعد في الصين وكوريا الجنوبية واليابان، في حين تنخفض هنا في أميركا». وفي بعض الأحيان يقابل الطلاب الراغبون في المغادرة بعض الحواجز. فقبل عِدة أعوام ذهب رئيس أحد معاهد التكنولوجيا الهندية المرموقة إلى منع طلاب مرحلة ما قبل الدراسات العليا من قبول المنح الأكاديمية أو التجارية التي تقدمها جامعات أو مؤسسات في الخارج.وهناك عوائق أخرى تحول دون حرية الحركة العالمية أيضا. وقد لا تنبع هذه العوائق دوماً من نزعة الحماية الصريحة، ولكنها تعمل على الحد من القدرة على الوصول إلى الجامعات في مختلف أنحاء العالم. ففي الأعوام التي أعقبت الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، على سبيل المثال، أدت المخاوف الأمنية المشروعة إلى تأخير إصدار تأشيرات عدد هائل من الطلاب وغير ذلك من العقبات البيروقراطية الهائلة التي واجهت الأجانب الراغبين في الدراسة في الولايات المتحدة. بيد أن أرقام الطلبة عادت إلى الارتفاع، على الرغم من بعض المشاكل المتقطعة، ولكن تظل بعض القيود الصارمة مفروضة على تأشيرات العمل والإقامة، والتي من المفترض أن تعمل كإغراء لاجتذاب أفضل وألمع العقول للدراسة في الولايات المتحدة.ويرجع هذا في المقام الأول إلى حقيقة مفادها أن توسع المعرفة ليس عبارة عن مباراة يقابل فيها الجانب الفائز جانباً آخر خاسرا. فزيادة عدد درجات الدكتوراه وازدهار البحوث في الصين، على سبيل المثال، لا ينتقص من المخزون الأميركي من التعلم؛ بل إن الأمر على العكس من ذلك تماماً، فهذا من شأنه أن يعزز من معارفنا وما نستطيع تحقيقه من إنجاز. ولأن المعرفة تشكل منفعة عامة، فإن المكاسب الفكرية التي يحصلها بلد ما كثيراً ما تفيد بلدان أخرى. وقد تزودنا الأبحاث الصينية بأحجار البناء اللازمة لتحريك إبداع رجال الأعمال في الولايات المتحدة - أو غيرهم في بلدان أخرى.
ولا شك أن الفوائد الاقتصادية التي قد تترتب على ثقافة أكاديمية عالمية سوف تكون هائلة. فكما تعمل التجارة الحرة على توفير أدنى السلع والخدمات سعراً، الأمر الذي يفيد كلاً من المستهلكين والمنتجين الأكثر كفاءة، فإن المنافسة الأكاديمية العالمية من شأنها أن تجعل التنقل الحر للبشر والأفكار على أساس من الجدارة والاستحقاق هو القاعدة على نحو متزايد، وهو ما يشتمل على عواقب إيجابية هائلة بالنسبة للأفراد والجامعات والبلدان. والواقع أن الأنماط النشطة اليوم من القدرة على الحركة ونقل المعرفة تشكل نوعاً جديداً من التجارة الحرة: التجارة الحرة في العقول.ويتعين على الولايات المتحدة أن تستجيب لعولمة التعليم العالي، ليس بالهموم والمخاوف بل باعتبارها فرصة. فلا التآكل التدريجي في حصة الولايات المتحدة من الطلاب في السوق، ولا بروز منافسين طموحين جدد في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، يعني أن الجامعات الأميركية أصبحت على مسار حتمي منحدر.فمن خلال مقاومة حواجز الحماية في الداخل والخارج، والاستمرار في استقدام أفضل طلاب العالم والترحيب بهم، وابتعاث المزيد من الطلاب إلى الخارج، وتعزيز أواصر التعاون البحثي عبر الحدود الوطنية، ودعم الجامعات البحثية في الداخل، تستطيع الولايات المتحدة أن تواصل ترسيخ تفوقها الأكاديمي وأن تستمر في توسعة مجموع المعارف العالمية ونشر الرخاء العالمي.
* كبير زملاء البحث والسياسات لدى مؤسسة كوفمان
خاص بـ(الجزيرة )