أعود اليوم كما وعدت الأسبوع الماضي لإتمام الحديث عن مهرجان سيت الشعري ستة أيام متواصلة من دوار البحر وصحو الشعر:
يقرأ الشاعرات والشعراء بدعوة من هذا المهرجان في أزقة عتيقة عبثاً تحاول أن تستجمع مجداً مضى من خلال التجاذب مع جذوة شعر حديث تنفلت قصائده من القافية والوزن كما ينفلت المستقبل من الحاضر. بنايات وبيوت خطت عليها يد الزمان أشجان من عمروا بعضها خلال مئة عام قبل أن يمضوا لحياة أخرى ويتركوها ذكرى لآتين قد ينتبهون وقد لا ينتبهون لما تركوه لهم على واجهات البيوت من رسوم وأشكال تعبر عن ما مروا به من وجد وما كان سائدا في وقتهم من فنون المعمار. غير أن الغريب بالنسبة لغريبة مثلي أتت من بيئة قوض العمران مساكنها القديمة ودرس معه رائحة عرق من شيدوها أن تلك البيوت والبنايات على قدمها لم تكن مهجورة بل كانت آهلة بالبشر حيث كانت حبال الغسيل تتدلى من الشرفات بثياب زاهية يبدو أنها مشطوفة للتو بعطر فرنسي مثلما كانت تتدلى عناقيد أنواع مختلفة من الزهر والأغصان. تحت أشجار الصفصاف والحور والبلوط الطاعنة في العمر نثر على أرض تلك الأزقة المرصوفة بالحجر عدد غير قليل من المقاعد البلاستيك التي حدست أنها النكاية الوحيدة بالشعر والمكان معا. لم يكن من حاجة لميكرفونات فقد بدا الجمهور قريبا من هسهسة الشعر في الحناجر بما فيها أسراب من النساء اللواتي اكتفين بالاستماع عبر نوافذ البيوت ومطلاتها القريبة حتى لو أن إحداهن اشتهت لمدت يدها وقطفت قصيدة من قلب أي من الشعراء مباشرة دون كبير عناء.
هامة الشعر
كانت هناك قراءات في الكنائس وفي مدارس ثانوية وفي متحف بول فاليري. هناك قرأ أدونيس فأشجى وتضوع وهناك قدمت فينوس خوري قراءت شعرية مرهفة تشبه نحولها وبياضها الحليبي، هنا وهناك قراءات للشاعر صلاح ستيتية, للوسي فينتر وماريا رونيت,و دانيال لوور, شمس لانجاروودي, آنى روستفيك, سيريجو كاستيلو, برنارد مازو, نوني بينقاس قراءة لافتة بجدتها للشاعر السعودي عيد الخميسي وقراءة للشاعر العراقي صالح ديب وفاضل عزاوي والشاعر المصري حلمي سالم والشاعر البحريني علي الشرقاوي، وقرأ الشاعر الفلسطيني غسان زقطان فقام كعادته في أماسي الشعر بوضع قلوب متابعيه على نار هادئة وتركها تستعر دون دخان. كان هناك عدد كبير من الشعراء يربو على الخمسين فلم أستطع متابعة العديد من الأمسيات وفاتتني بعض صباحات الشعر خاصة في حالة تضارب الأوقات أو عدم نجاحي في اتباع الخارطة للوصول إلى المكان الذي قد يكون أحيانا في عطفة شارع مضيقية بجانب فندقي إلا أنني لا أكتشف ذلك إلا عند انفضاض سامر الشعر.
من شموس الإمارات ميسون صقر
غير أنني رغم ذلك العدد الكبير من الشعراء لم أستطع أن أمنع جوارحي من الألتفات في اليوم عدة مرات صوب بيروت وصوب الإمارات. فقد غابت الشاعرة والصديقة العزيزة ميسون صقر رغم وجود مواعيد شعرها في دليل القراءات الشعرية طوال السبعة أيام. وقد سألت اللجنة المنظمة للمهرجان عن غيابها ولم يكن لديهم جواب محدد فأرجو الله أن تكون مجرد غيوم صيف تلك التي حجبت شمس الإمارات عن سماء فرنسا.
عباس بيضون ضمير يخون الموت
وشعر يعاهد الحياة
أما فجيعة الشعراء في تأخر عباس بيضون عن مهرجان سيت بعد أن رمانا غسان زقطان بفتيل تعرض شاعر لبنان المتوهج دائما وأبدا في الظلمة وفي وضح النهار لحادث سير كاد يودي به لولا عهده الغليظ مع الحياة فيمكن أن يقال في غيابه المؤقت ما قالته الخنساء في غياب صخر الأبدي. كأن طائر الفينيق قد حط من شواطئ صور العظيمة مباشرة على الرؤوس وأدارها جنوبا بالضبط باتجاه ذلك الجمال المتجبر والضمير المتوقد الذي تخفق به قصائد عباس بيضون وكل كلمة يكتبها وإن كانت لمجرد أن يذود عن حق فراشة في حرية استنشاق الهواء.
قراءاتي
كنت محظوظة أن يكون جدول قراءتين من قراءاتي الخمس في حضرة جمهور جديد لم أحظ بإصغائه من قبل. فقد حاول المنظمون للمهرجان على مايبدو أن يزاوجوا بين روح القصائد وروح المكان الذي تقدم فيه القراءات الشعرية.
القراءة الأولى: كانت على ظهر سفينة تعب البحر. وكان الجمهور عدد من البحارة والسواح وأهالي المدينة والضيوف وعدد متراوح الأعمار من الأطفال ممن لوحتهم يد الشمس فحولتهم إلى لوحة برونزية آسرة تموج بأسباب الحياة, كما كان الجمهور أسراب كثيفة من النوارس والسنونو ونجمات البحر وعدد لا يحصى من الأمواج الطائشة والرياح الحرون. لم يسبق لي أن مررت بمثل هذا البذخ في تنوع جمهور الشعر. كانت تجربة أولى بالنسبة لي أن أقرأ وتتطاير أوراق القصائد من بين ضلوعي تماما لتحتك بالكون في مشهد حي أمامي.
أما أمسيتي المدهشة الثانية فكان جمهوري النجوم وقمر ليلة أربعة عشر شعبان وشموع ناحلة يسهر الليل على عودها ويستشيط غيرة الظلام، وعدد قليل من العشاق وطلاب المدارس والجامعات, ومسنون جفاهم النوم على ما يبدو فهجروا مهاجعهم وجاءوا يطالبون بحقهم في رشفة أخرى من إكسير الشباب. موسيقى شجية بكل ما عرف العالم من لغات العيون والرائحة والكلام تصاحب القصائد وامرأة بشال أسود تقرأ شعرا فيلتفت الكون إلى تلك البلاد التي هبطت عليها حواء.
في طريق العودة
أنواع متعددة من الشعر تطلق نوافير رمان وكرز وأحزان شفيفة وحبر مبرح وأشواق مؤرقة وأسئلة لا تنتهي الشعر بألوان مختلفة بعضها صارخة وبعضها هادئة والكثير منها يتلفع بأطياف اللوعة على فقد لا يعرف الشعراء أنفسهم تعريفا له ولا يستطيعون تحديد ما الذي ضاع.
ألقي قصائدي باللغة العربية للمرة الأخيرة يوم رحيلي وأنسحب سريعا من المنصة لأضيع بين الناس وأنا أستمع لقصائدي بالفرنسية وكأن من يستعير روحي أمامي ويصبها في أقداح لاتصل لها يدي ليشرب منها الغرباء في سيت، عبثاً أبحث عن فرنسا تلك التي افتتن بها جيل النهضة العربية البعيدة من الرواد ليس إلا شعر يحاول أن يبني مخيلة بديلة للعلاقات والمدن والأشياء.
ملهمتي:
آه قبل أن أختم.... أما من لا أغفل عن ذكرها وإن لم آتي عليها طوال حديث الرحلة. تلك الروح الحرة الباسقة التي تحاذي حياتي كمحاذاة الماء لليابسة لتكون هناك على الأرض حياة, فبدون حرير راحتها في يدي لم أكن لاكتشف جهات شعر جديدة.