تباين الناس في فهم مقولة خادم الحرمين الشريفين «الله يطول عمر البترول» والتي أتت في سياق حديثه لبعض المبتعثين، فمنهم من فهمها على أنها دعوة خالصة لأن يطيل الله مدة تدفق البترول لتنعم الأجيال اللاحقة بإيراداته أسوة بالسابقة، ومنهم من فهمها على أنها شكر وتقدير للبترول ودوره في تمويل عملية التنمية، فلولا إيرادات البترول -بعد فضل الله- لكان من المتعذر تحقيق المدنية التي نعيشها، وإن كان المعنيان مرتبطان في مضمون التعبير، فلاشك أن خادم الحرمين الشريفين يتمنى من الله أن يستمر تدفق هذه الثروة لتغدق على الأجيال التي ستتعاقب على عمارة هذه الأرض الطيبة وهو أيضاً يدرك أن البترول نعمة من الله أفاض بها على هذه الأرض الطاهرة وأهلها، وشكر النعمة هو شكر لمحدثها، وذلك باب من أبواب الإيمان، ولكن هذا التباين في مفهوم الناس مثير للشجون، فواقعنا أشبه بمن يرتقي قمة جبل شاهق، عند السفح تتاح له بماله كل الوسائل، وكل ما ارتقى علوا أكثر كلما قلت قدرته على استخدام بعض وسائله وازدادت الحاجة لاعتماده على بنيته الذاتية ومهاراته، فنحن نعتمد في واقعنا على ما نستورده من مواد ومعدات وكثير من القدرات البشرية، وذلك لنعيش في مدنية تحقق لنا الرفاهية والكرامة، ونحقق ذلك بنزر يسير من الجهد، فما علينا سوى أن نحفر تحتنا ونبيع ما نجد من معادن وبترول، ولكن واقعنا يتغير كل يوم، فمتطلباتنا تزيد وتكاليفها ترتفع وشعبنا يزداد بتوالد متسارع، وقدراتنا الذاتية تنمو ولكن نموها وئيد. وإذا استمر الحال على ماهو عليه فسنصل ليوم لا تستطيع ثروتنا المدفونة ولا المستخرجة أن تفي بحاجاتنا، وإذ ذاك سيتوقف صاعد القمة الشاهقة وربما يجبر على الانحدار، فمهارة الاستمرار في الصعود لديه ضعيفة وأمتعته كثيرة وثقيلة والصمود في العلا مرهق.
كلنا نتمنى ونتضرع لله أن يطيل عمر البترول، ومع ذلك ندرك أن البترول لن يستمر بالتدفق أكثر مما هو محتوم له، وعلينا أن نعي أن ذلك اليوم الذي تعجز الأرض عن دفق مزيد من البترول، عندما يحين، سيكون العالم مختلف، ولا بد أن نستشرف ذلك اليوم ونستعد له منذ الآن، فاليوم يعيش فوق سطح الأرض حوالي مليار إنسان كلهم يتنافسون لتحقيق عيش كريم ووسيلتهم بذلك هي العلم والمعرفة والمهارة والتنظيم، وإستراتيجياتهم هي التعاون والتضافر في الجهود، والتنسيق والتوجيه في الخطط، والكفاءة والجودة في المنتج، والتوفير والتدبير في الموارد، هؤلاء الكم الهائل من الناس، لن يكونوا متساوين بالفرص والنجاح، فمنهم من سيكون في القمة ومنهم من سيكون في القاع، وكل أمة في الأرض تجهد أن لا تكون في قاع التحضر، فذلك هو الذل وهو الخسران، واليوم نرى أمماً كانت مسحوقة باتت تهز العالم بجبروتها وقدرتها الاقتصادية والعسكرية، عندما وضعت قياداتها خطة محكمة للتغيير، ونرى أمماً كانت تسود غيرها باتت في منحدر وخيم، لم يشفع لها التاريخ ولا إرثها الثقافي بعد أن فقدت رؤيتها.
كتبت عدة مرات حول ضرورة وجود رؤيا وطنية ترسم صورة المستقبل، وتستثير الهمم لوضع إستراتيجيات متضافرة لتحقيق نمو يضمن لأجيالنا القادمة مرتبة حضارية متقدمة، وقلت وقال غيري إننا بحاجة لوضع خطة للتغير تؤهلنا لنركب قطار التقدم، فواقعنا يقول إننا لا زلنا في محطة الانتظار، لماذا نحن لا نزال في محطة الانتظار؟ لأن قطار التقدم يشترط شروطاً لا بد أن نفي بها لنحصل على تذكرة الركوب، وهذه الشروط ليست صعبة!، فأولاً: هو أن يكون لنا رؤيا متوازنة تأخذ في عين الاعتبار حقيقة كيوننتنا الثقافية والعقدية، ثم أن نتخلص من تناقض قيمنا وحقيقة ممارساتنا، وهنا لا أتكلم عن تناقض الشخص العادي، ولكن تناقض المجتمع في صورته الكلية، فالنفاق وهو أحد صور ذلك التناقض يسود لانعدام حرية التعبير، وسبيلنا للخلاص من ذلك التناقض يكون في كفالة حرية التعبير كمنهج اجتماعي وقانون رسمي فنعي بذلك عيوبنا ونستشعر خلافاتنا ونستجلي طموحنا ورغباتنا فنعمل على ضوئها لإصلاح الخلل ورفع الزلل.
والشرط الثاني أن نتشارك في رسم الصورة التي نريد مستقبلنا أن يكون عليها ولن نحقق هذا الشرط مالم نتخلى عن مفهوم الرعاة والرعية والصفوة والدهماء والولي والمولى، فهذا التصوير للمجتمع لا يتناسب وحقيقة العصر، عصر العلم والمعرفة والحرية للجميع، فلم يعد هناك خاص وعام في شؤون الأمة، فكلنا في مركب واحد، ما يتهدد الكبير يؤلم الصغير، الشرط الثالث هو المسؤولية ويقصد بذلك تحمل تبعية التصرفات فمن يخالف النظام يستحق التقويم، ومن يقصر في واجبه يستحق التوبيخ والمحاسبة، ومن يتسبب في أذى الناس يعاقب بما يناسب، لا محسوبية لشريف ولا حصانة لعريف ولا مناص لذي قرابة أو نسب، والشرط الرابع هو العدالة، والعدالة لا تقوم في مجتمع ينتقص بعضه من البعض، ويسود بعضه البعض، فالعدالة ليست مجرد التقاضي والتخاصم لدى ذي شرع في خلاف، ولكنها تمكين الفرص للمجد وحماية الضعيف من القوي وقمع الاستغلال وكسر الاحتكار ومكافحة الغش والتدليس وتسويد النظام والشرع والقانون، والشرط الخامس هو تفعيل الحاكمية، وذلك يعني أن لكل مسؤول سلطة ولكل سلطة نطاق، فلا تغلب سلطةٌ سلطةً أخرى في نطاقها مالم يحكم ذلك نظام وقانون، فلا يجوز أن يكون أثر المسؤول أكبر من سلطته فيعطل سلطة غيره بجاه أو تعسف أو جراءة، والشرط السادس أن يحكم ذلك كله بنظام مكتوب يصان ويحترم. عندما نحقق هذه الشروط سنلج قطار التقدم وسنحصل على تذكرة في الدرجة الأولى بما لدينا من قدرات، وإن لم نحقق تلك الشروط سنظل في تلك المحطة نتمتع بمرافق الانتظار.
نعم نرجو الله أن يطيل عمر البترول ولكن نرجو الله أيضاً أن يلهمنا حكمة استخدامه والاستفادة من منافعه، لنكون قادرين على الانعتاق من الاعتماد عليه عندما يحين يوم وفاته.
m900m@gmail.com