اليوم ما قبل الأول
أصل عبر مطار تشارل ديغول بباريس لأنتقل إلى مطار مونتبليه، فأتحول في ثوانٍ إلى غريبة ترتحل على جنح الغسق جنوباً إلى مدينة «سيت». مدينة فرنسية عمالية
..... تحترف المهن البحرية، لم أعلم بوجودها على الخارطة لجهلي الجغرافي قبل أن أسترشد بجوجل، بعد أن وصلتني الدعوة منذ سبعة أشهر للمشاركة الشعرية من المملكة مع زميل آخر من الشعراء الشباب في مهرجان سيت.
لم أكن أعرف معرفة مسبقة أياً من منظِّمي المهرجان سوى ذلك التعارف المقتضب الذي دار عبر الإيميل بيني وبين السيدة «فرانسواز كومينهس» لترتيب رحلة الضيافة، وطلبها بأن أرسل لها 30 قصيدة من قصائدي ليقوم بترجمتها أستاذ فرنسي لبناني الأصل. إذن حتى تلك لحظة وصولي إلى المطار لم أكن أعرف إلاّ اسم المنسِّقة مع الضيوف «فرانسواز» و»أنتوني جووكي» أستاذ الترجمة. إلاّ أنني ما لبثت في أيام قليلة أن كوّنت نواة لعدّة صداقات، وإن ظلّ عليها أن تتجاوز تحدِّي حواجز اللغة.
شعر على شفا المفاجآت
لم يكن المهرجان من تلك المهرجانات الفارهة المبهرجة بفنادق الخمسة نجوم وقاعاتها. كان مهرجاناً شعرياً بالمعنى الحميم للكلمة. وكان لقاءً أريحياً بالمعنى الشعبي للكلمة، كتقاسم رغيف فرنسي وقطعة جبن على حافة حياة مكافحة. لم يكن منظمِّو المهرجان من طواقم الشركات المحترفة كما هي العادة في بعض الفعاليات المشابهة. كان منظمو المهرجان أناس عاديون من لحم ودم وابتسامات عريضة ولغة إنجليزية بسيطة مدغومة بالفرنسية. الكثير منهم طلبة فرنسيون وشعراء من نفس المدينة أو مدن قريبة أخرى.
في لقاء افتتاح المهرجان قابلت السيدة التي تقف خلف فكرة تنظيم مثل هذا المهرجان السنوي ومديرته، السيدة «مييثا فالس بلاد». وهي في نفس الوقت مديرة متحف بول فاليري. كانت بسيطة في مظهرها تشبه إلى حد بعيد الممثلة البريطانية فينيسيا رد قريف في فيلمها جوليا على وجه التحديد. وكانت مثلها في ذلك الفيلم سيدة من حماس وحب وحرية وبساطة آسرة، تبادلنا الكلمات عبر استعارة اللغة الإنجليزية لمساعدتها «سنتيا» تلك الفتاة الفرنسية التي لازمتني مثل فيَ حنون طوال مدة استضافتي. لم يخل المهرجان من بعض الفوضى ولكنها فوضى الشعر الخلاّقة وليست البتة فوضى الحرب الهدامة.
ألقت السيدة ميثا في حضور الضيوف ورئيس بلدية سيت، كلمة ترحيبية وتعريفية بالمهرجان ورؤيته في إخراج الشعر من عزلة النشر الورقي وتشظي النشر الإلكتروني، ليمشي حراً خفيفاً بين الناس في الشارع. تحدثت السيدة دون ورقة أو ما يكرفون في ساحة المدينة التي كانت مزينة بأعلام فرنسا والدول المشاركة وبأروقة كتب الشعر وفنون تشكيلية متعدّدة. وكان هناك رواق مخصص لمنشورات المهرجان، وعلى رأسها كان كتاب الأنتولوجيا الأنيق (250 صفحة) بقصائد مترجمة للفرنسية لجميع الشعراء المشاركين في اللقاء مع مختصر لسيرتهم الذاتية.
كان أيضاً ملفتاً ومدهشاً بالنسبة لي أن أرى تلك الأشكال التي انتشرت في ساحة المدينة على هيئات جسدية تجسِّد الطبقات الاجتماعية والعاطفية للبشر، حيث صنعت بعض الهيئات من ديباج وستان وأخرى صنعت من ألياف وخيش وخشب صلب أو جبس يتفتفت.
طيف
في ضيافة الشعر على ضفاف البحر وحنين البحارة، كان لابد أن أتذكّر الصديقة الشاعرة هدى الدغفق حصرياً، فهذا المناخ المعبأ بخبايا الشعر ومكاشفاته، يليق بصحبتها في صخبها الهادئ وهدوئها الصاخب خاصة حين تمرق أمامها القصيدة وتصطفيها.
اليوم الثاني 24-7-2010
على شاطئ مدينة سيت الفرنسية
مهرجان الشعر المتوسطي يفرد أجنحته في محاولة لخطف أبصار المارّة وعابري السبيل وسكان المدينة وهواة البحر، علّه ينجح في منافسة أشرعة السفن على ود السماء، وطلب
القرب من غيوم شاردة، يبدو أنها من فرط زهوها بنفسها لا تنتبه لتلويحات الحالمين، تحاول تلك المدينة التي خرج من ضلعها الشاعر بول فاليري أن تتباها بالشعر أمام السياح، فتزين الحدائق العامة والساحات والطرقات الرئيسة والفرعية بصور الشعراء وأسمائهم من السعودية والإمارات وعمان والبحرين وسوريا ولبنان وفلسطين وتونس والمغرب ومصر والعراق وليبيا والجزائر ومالطا وتركيا وإيران وتشاد وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا وصربيا وكوسوفو واليونان وقبرص وفرنسا، وسواها من تلك البلدان المتورطة بالبحر وبمقاومة الحروب منها أو ضدها.
يُدعى الشاعرات والشعراء ليقرؤوا شعرهم في المقاهي الممتدة بامتداد الرصيف المطل على مينا سباق الزوارق البحرية، عل من يصادف وجوده هناك يصادف الشعر هوى في نفسه، مثلما تطيش الأمواج وتطرطش جمهور المارة. يتجمهر بعض الشباب حول الشعراء وكأنّ شعلة الحياة مشترك الطرفين الخالد، ويصغون إلى الشعر بمختلف لغاته الأسبانية العربية الإيطالية بتؤدة بادية، ثم لا يلبثون أن يعبوه دفعة واحدة حين تنطلق القصائد مترجمة إلى الفرنسية من شفاه تهوى حرفة الإلقاء.
عباس بيضون ضمير يخون الموت
وشعر يعاهد الحياة
أما فجيعة الشعراء في تأخر عباس بيضون عن مهرجان سيت، بعد أن رمانا غسان زقطان بفتيل، تعرّض شاعر لبنان المتوهج دائماً وأبداً في الظلمة وفي وضح النهار لحادث سير كاد يودي به، لولا عهده الغليظ مع الحياة، فيمكن أن يقال في غيابه المؤقّت ما قالته الخنساء في غياب صخر الأبدي. كأنّ طائر الفينيق قد حط من شواطئ صور العظيمة مباشرة على الرؤوس وأدارها جنوباً بالضبط باتجاه ذلك الجمال المتجبّر والضمير المتوقّد الذي تخفق به قصائد عباس بيضون وكل كلمة يكتبها وإن كانت لمجرّد أن يذود عن حق فراشة في حرية استنشاق الهواء.
أشعر عند بلوغ هذه النقطة الجارحة بأنّ عليّ التوقف، أما بقية مفاجآت تلك الرحلة وكشوفها الشعرية فأتركها للأسبوع القادم بإذن الله.
Fowziyah@maktoob.com