يعتبر البروفيسور نعوم تشومسكي (Noam Chomsky) ذو الأصول اليهودية- بالنسبة لنا نحن معشر اللغويين- مؤسس علم اللغة الحديث (Modern Linguistics)دون التقليل من شأن العالم سوسير (Saussure) الذي كان له الفضل في وضع مبادئ هذا العلم في مطلع القرن الميلادي الماضي.
ولقد اكتسب تشومسكي شهرة كبيرة واحترام تلاميذه على مستوى العالم، ليس فقط بسبب أفكاره اللغوية الثورية، ولكن أيضا بسبب دعمه للكثير من القضايا الإنسانية والوطنية كقضية فلسطين ومعاداته المستديمة للصهيونية والامبيرالية.
وشكل تشومسكي مع رفيق دربه الراحل أستاذ الأدب والحضارة في جامعة كولمبيا بولاية نيويورك الفلسطيني إدوارد سعيد (Edward Saed) فريقاً ثنائياً أخذ على عاتقه الدفاع عن قضية الشعب الفلسطيني على المنابر الأكاديمية والفكرية، وقدما أروع المواقف في نقد الصهيونية ومخططاتها الاستعمارية. ولم يتخل تشومسكي عن قضية رفيق دربه إدوارد سعيد وواصل الدفاع عن القضية الفلسطينية حتى أصبحنا- نحن التشومسكيون- نشك في يهوديته ونعتقد أنه من أصول فلسطينية.
ولعل دعوته الأخيرة للشعب الأمريكي بضرورة مواجهة إسرائيل ومقاطعتها بسبب معاملتها للفلسطنيين خير دليل على وضوح وصلابة موقفه - رغم تقدمه الكبير في السن- ضد التعنت الإسرائيلي للشرعية الدولية التي ضربت بها عرض الحائط المرة تلو الأخرى لسنوات طويلة.
وصف تشومسكي موقف بلاده الولايات المتحدة الأمريكية بالمتناقض في محاضرته أمام أكثر من 450 من أعضاء هيئة التدريس والطلاب في قاعة جاكوب سليبر (Jacob Sleeper Auditorium) بمعهد ماساشوتس التقني (MIT) الذي يعمل به، ومضى ليقول: (مع الوقت أصبحت آلة السيطرة العسكرية الإسرائيلية أكثر تعقيداً وفاعلية في التأثير على حياة الشعب الفلسطيني.» وقدم تشومسكي أمثلة على هذه السيطرة الإسرائيلية البغيضة ومنها نظام عبور العرب وطرق المرور المقيدة والحواجز الأمنية بين الأقاليم الإسرائيلية والفلسطينية، والتي أسماها (جدار الضم Annexation Wall). واتهم إسرائيل بتبني سياسة جنوب أفريقيا إبان التمييز العنصري والمعروفة (بتوطين القمع Indigenization of Repression).
ويذهب تشومسكي أبعد من ذلك في حديثه عن القضية الفلسطينية ليصب جام غضبه على موقف بلاده من الصراع الدائر بين الفلسطنيين والإسرائيليين. يقول تشومسكي: لعقود طويلة قامت إسرائيل بقتل وخطف المدنيين اللبنانين وجلبهم لإسرائيل وسجنهم كرهائن دون أن تعارض الحكومة الأمريكية هذه الأعمال الإجرامية أو حتى شجبها. ولكن عندما قامت إسرائيل بشن هجومها الوحشي على لبنان في صيف 2006م بذريعة أسر جنديين إسرائيليين على الحدود بواسطة حزب الله وجدت إسرائيل الدعم والتأييد الكامل من الحكومة الأمريكية.
وينتقد تشومسكي سياسة الولايات المتحدة الخارجية نحو إسرائيل، ولكنه في نفس الوقت يؤكد على أن لديها السلطة في تخفيف حدة الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني. يرى تشومسكي أن العالم يعمل كالمافيا وأن الولايات المتحدة الأمريكية عندما تقول (لا تفعل شيئاً فأنت لا تفعله) وهو ما يجب فعله مع إسرائيل. فالتغيير في موقف إسرائيل - كما يراه تشومسكي- لابد أن يبدأ من البيت الأبيض الذي لم يسميه صراحة، واكتفى بالإشارة إليه بقوله: (من هنا from here).
وأخيراً، لابد لنا -نحن العرب- أن نتوقف أمام الطريقة الذكية التي يقدم من خلالها تشومسكي القضية الفلسطينية لمواطنيه وجمهوره في داخل وخارج الولايات المتحدة الأمريكية. يستند تشومسكي على حقائق ووقائع عالمية يفند بها المزاعم الإسرائيلية، ويشحذ الدعم والتأييد للشعب الفلسطيني لنيل أبسط حقوقه الإنسانية. في هذا المنحى لا يختلف تشومسكي اللغوي عن تشومسكي السياسي، فنظريته في علم اللغة تقوم على ما أسماه (بالنحو العالمي Universal Grammar) ومفادها أن هناك خصائص نحوية مميزة تشترك فيها لغات العالم، وهو ما أثبته وتلاميذه في دراستهم للعديد من لغات العالم، فاستخدام تشومسكي من باب التشبيه للشواهد العالمية (كحصار غزة وقتل أطفالها وجدار العزل والتضييق على الشعب الفلسطيني والهجوم المسلح على سفن الحرية وقتل أفرادها) التي تجرم إسرائيل لإقناع العالم بخطورة الظلم والعدوان الواقع على الشعب الفلسطيني كان - ولا يزال - له تأثير كبير في كشف الأكاذيب الإسرائيلية وحشد المزيد من التأييد للقضية الفلسطينية في أوساط الأكاديمين والمثقفين الغربيين. يقدم لنا تشومسكي أمثلة حية على سلطة القلم والفكر في تغيير ما تعجز عنه أسلحة الدمار، وفي هذا دعوة لكتابنا ومفكرينا لاستخدام أقلامهم وفكرهم في دعم قضايانا العربية والاسلامية وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فنحن أحق بها من تشومسكي.
* أستاذ مشارك في اللسانيات النفسية والتطبيقية
mohammed@alhuqbani.com