حلقّت طائرة خطوط (عربستان) الجوية في أجواء القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، فأطل الراكب المسافر (عودة بن مسلم اليعربي) من نافذة الطائرة ليشاهد هذه المدينة الساحرة بطبيعتها، والعريقة بتاريخها، والعظيمة في قدرها حتى تصارعت على رحاها الأمم منذ الأزل وستبقى تتصارع على ضمها إلى الأبد، فرأى لوحة جميلة امتزجت فيها ألوان الطبيعة وملامح المدينة بأصالة العمارة الإسلامية وعراقة المعالم التراثية وشواهد الحضارة المدنية، فالمآذن كانت شامخة في الآفاق تصدح ب(صوت الحق)، وأشجار الزيتون كانت وارفة تظلل الطرقات ب(ظلال السلام)، والأحياء كانت آمنة وخالية من (صور التطرف) اليهودي، وبينما هو كذلك يجول في بصره بين أكناف القدس إذ بدأت الطائرة تتلمس مدرج مطار صلاح الدين بمدينة القدس.

بعد دقائق هبطت طائرة (عربستان) أرض المطار المقدسي، ثم ترجل منها الركاب ومن بينهم (عودة اليعربي)، الذي يُوشك أن يطير فرحاً لأن قدميه ستلامس تراب فلسطين الغالي. سار عودة اليعربي من الطائرة إلى داخل المطار وهو لا يكاد يصدق ما ترى عيناه، فقد رأى العبارات والإرشادات باللغتين العربية الوطنية والإنجليزية العالمية، كما لمح صور زعماء وقادة فلسطينيين كالحاج أمين الحسيني، وياسر عرفات، وخليل الوزير، وأحمد ياسين، والقسام وغيرهم.

وقف اليعربي أمام موظف الجوازات الفلسطيني، الذي يضع بجواره علم فلسطين الحرة، مرحباً بالمواطن العربي، مؤكداً له أنه لا حاجة لتأشيرة دخول أو زيارة أو مرور، ففلسطين بلد كل عربي ومسلم، بل بلد كل حر وشريف يرفض الظلم ويُسهم في رفع الجور وُيحب أن يسود الخير كل أرجاء الأرض. فالتقط عودة جوازه وانطلق نحو مواقف خدمات الأجرة وهو يتمتم: حلم أم علم.. حلم أم علم..! ثم استقلته إحدى سيارات الأجرة نحو فندق الكرامة القريب من باحات المسجد الأقصى المبارك. كان عودة اليعربي من شدة فرحته ولهفته على رؤية القدس يتلفت بشكل سريع وفي كل اتجاه، فقد كان يريد أن يرى كل شيء بذات اللحظة، وجوه المقدسيين التي تضيء محبة ونقاءً، ومباني القدس القديمة التي تعطر الشوارع والحارات بعبق التاريخ المجيد، وترابها الطاهر المخلوط بدماء الشهداء الزكية، وأشجارها الشاهقة التي تحكي قصة الشموخ والصمود في زمن الانكسار العربي، وأسواقها التي تحكي امتزاج الحضارات والشعوب في بوتقة الإسلام والعلاقة الطيبة مع الآخر. غير أن المشوار إلى الفندق قطع رحلة المتعة لدى عودة اليعربي، فقد وقفت سيارة الأجرة عند مدخل الفندق فدلف إلى داخله وفي رأسه ألف فكرة سياحية للتجول بالمدينة التي تعشقها أمم الأرض.

كان الفندق يعج بالسياح وزوار المدينة المباركة من مختلف بقاع العالم وبينهم أهلها الفلسطينيين من مقدسيين وغيرهم، يقدمون خدماتهم المتعددة والسكينة تملأ نفوسهم والسلام يخيم عليهم، فلا تجد وجوه البغض اليهودي ولا صور التطرف الإسرائيلي، فهنا مدينة السلام عاصمة بلد الوئام التي لا تقبل أهل الغدر والخسة واللئام. تلقى عودة الترحاب والاهتمام من موظفي الاستقبال، ثم انتقل إلى غرفته الخاصة التي تطل على جانب من جوانب الحرم القدسي، فشاهد لأول مرة في حياته المسجد الأقصى بقبته الفضية وإلى جواره مسجد قبة الصخرة بقبته الذهبية فدمعت عيناه بعفوية، فلم يطق الصبر أو يتمالك نفسه، فقد شعر أن الوقت يمر كالسنين وهو بعيد عن تلك الرحاب النقية التي شهدت مقدم الفاروق المهيب يوم فتح بين المقدس، فانطلق كأنه البرق ما لفت نظر نزلاء الفندق والعاملين فيه، وقد اتجه نحو الحرم القدسي والأرض لا تكاد تحمله فالفراق كان طويلاً والشوق صار مستعراً. وبينما هو كذلك إذ ارتطم رأسه بلوحة في وضع غير طبيعي وقد أكلها صدأ الخداع تشير تارةً إلى (طريق السلام) وتارة ً أخرى إلى (طريق الاستسلام) فلم يع ِ إلا وقد انتبه من نومه فقد كان حلماً عربياً خارج إطار الزمن الأميركي.