قد يدفعك صوت إذاعي معتق يأتي من الأزمنة البعيدة يأتي من الأمس من هناك حيث الأشياء كما هي ربما زمن حجر الرياض وطين الباطن والبطين من تلك الأودية التي خلخلت الحافات الكلسية من جبال طويق التي ميزت نجد عن غيرها من البلدان.. جبال طويق غاصت شمالاً مع الميل إلى الشرق في رمال الثويرات في الزلفي وعاشت حميمية آسرة مع نهايات أطراف الربع الخالي ورملة نجران جنوباً. قد تكون الصورة بهذا التكوين الطبوغرافي لكنها قد لا تكون بتلك الدقة ديمغرافياً... هذا الصوت الذي يحمل الأزمنة هو صوت مطلق مخلد الذيابي - يرحمه الله - وهو يترنم بقصيدة فيها رائحة العشق والناس ووجه من نحب ذلك الوجه الذي نحمله معنا وفي دواخلنا يغمرنا ونغمره يبكينا حيناً ويبقينا على الشفير على شفا آخر صخرة في تلك الحافات التي لا تعرف سبباًَ لنهايتها.
|
مطلق مخلد الذيابي يعيدك إلى زمنين، الزمن الأبعد والزمن الأقرب، أما الزمن الأقرب فهو زمن الطفرة الاقتصادية (التنمية الأولى) منتصف التسعينات الهجرية في القرن الماضي منتصف السبعينات الميلادية حين كانت الرياض مزيج من الحجر والطين والأسمنت أطرافها الشمالية الأمامية بنايات من الزجاج ووسطها الشمالي (فلل) وعمائر ذات طراز أوروبي، وبعض وسطها الجنوبي غارق بالطين والشوارع الترابية... كانت الرياض مدينة هجينة عمرانياً طرازات أوروبية بتقنيات الشركات الكورية ببيوت طامنة وجدران صامتة تقوم على (المرابيع) وحجر الرياض وجص المصانع المحلية، وصوت مطلق الذيابي يرسل نبراته عبر إذاعة الرياض ينثر القصائد الشعبية ويحكي حكاية التاريخ المسافر ويفرج عن حنين وحالات العشق.. ينبش من الدفاتر والوجوه القصائد المنسية من أوراق محمد بن حزاب بن يوسف الحزاب (1290-1370)هـ - يرحمه الله - الذي يمثل الزمن البعيد قبل ظهور هذه الدولة العزيزة في عهدها الثالث حيث كانت الرياض منزوية ومنسية في إحدى تعرجات وادي حنيفة أو على أطراف بطحاء ذلك الوادي الذي ينتهي ربما إلى (دحول). مطلق الذيابي ينبش بكل أشكال النبش اللين والطري أو الغائر لشاعر (محمد بن حزاب) الذي ولد في الزلفي وتوفي في بريدة بالقصيم عام 1370هـ وعاش في بيت على أحد النهايات الجنوبية لسوق قبة رشيد ببريدة تلك القبة التي هدمت بمعاول الطفرة الاقتصادية بلا مبرر وبقرار لا أدري كيف تم قبل أن يستيقظ فينا ضمير التراث العمراني وقبل أن تشكل له هيئات وحقوقيين وحماة ومدافعين... ليس وحدها قبة رشيد ببريدة هي من هدم بل الكثير من الأسواق والقيصيريات والقلاع والقصور والأحياء السكنية وكأن هذا الماضي معيباً ومخجلاً... حملنا عليه بقوة وجسارة دون أن يرف لنا جفن أو تبكي عين: صندوق التنمية العقاري والتطوير والتحديث والتثمين. حتى أننا بأقل من نصف عقد من الزمن أزلنا تاريخ قرن من الزمن الذي بناه الأجداد على مدى (100) سنة أزيل خلال (5) سنوات أي لم يبدأ القرن الخامس عشر (1401) - وهذه الأرقام ليست إحصائية إنما توقعية - إلا وأزيلت أحياء سكنية من أجل استبدال الطين بالأسمنت والنصف الآخر أزيل تحت ضغط أن لا يتحول أوكاراً للعمالة ويستغل بالجريمة... دائماً يحدث هذا عندما أتذكر هدم قبة رشيد ببريدة تنفتح في داخلي جراحات تاريخية وعمرانية وحنين الماضي لأن قبة رشيد كانت سوق للعامة وهي ذاكرة بريدة وسجلها النابض محفوظاً على جدرانها وجوه رجالها وفي زواياها كتب تاريخ بريدة الشفوي والمحكي والمنقول وعلى نتوءات التوى شارعها أنفاس وأسرار بريدة فهناك قسمات المدينة وأصوات الباعة وأحلام المتسوقين، كانت قبة رشيد الرمز المعماري للأسواق القديمة وكانت ملتقى بريدة: التجار والباعة والشعراء والعابرين وأهل الحنين، ومحمد بن حزاب واحداً من أولئك العابرين القادم من رمال الثويرات إلى قبة رشيد له حكاية مثل ما للآخرين حكايات مفخخة بالحب ومعطرة برائحة الناس. إذن محمد بن حزاب قال سالفة حب ورحل:
|
البارحة عيني سهرها تعاجيب |
والقلب من كثر السهر فيه ريبة |
حي السلام وحي من قدم الطيب |
وحي الذي ما بالمجالس حكي به |
يازين دونك مقدم الرأس به شيب |
وفرقاك يا خلي عليه مصيبة |
|