يلفت النظر ويوجع الأذن سماع اللغة العربية العليلة التي يتحدث بها البرلمانيون العراقيون في المقابلات الفضائية وخصوصا منهم ذوو الأصول العربية سنة وشيعة وهم الأحفاد المفترضون لسيبويه والفراهيدي والخليل بن أحمد.
كلما كبرت عمامة المتحدث كبرت المصيبة في عثراته اللغوية. بكل تجرد، السياسيون العراقيون الكرد (الأكراد) يسيطرون على اللغة العربية ويتحدثون بها بطلاقة وحذق لا يتمتع بهما زملاؤهم العرب. جلال الطالباني ومصطفى البرزاني ومحمود عثمان على سبيل المثال يبزون بقدراتهم التعبيرية بالعربية الفصحى جميع السياسيين العراقيين العرب مجتمعين. إنني لا أفهم شخصيا أسباب هذه المفارقة، لكنني أعرف أنها (كمفارقة غريبة) موجودة بالفعل.
هناك إثبات آخر على وجودها أشد وضوحا هو تمكن السياسيين والمثقفين ورجال الدين المسيحيين العرب في العراق ولبنان من اللغة العربية بطريقة تثير الإعجاب في حين تثير عثرات زملاءهم المسلمين اللغوية أشد العجب.
هذه قناعتي الشخصية، والتي بناء عليها أكتب هذه الحلقة وفاء وتقديرا لعلم من أعلام اللغة العرب المسيحيين هو الراهب ميخائيل عواد الملقب بالأب أنستاس الكرملي المتوفى عام 1946 م لعل الله تعالى أن يجعل في محبة ذلك الرجل للقرآن الكريم واللغة العربية شفاعة له يوم الحساب الأخير. ولد الراهب أنستاس الكرملي في بغداد عام 1866 م وتوفي في فلسطين عام 1946 م. عاش الرجل كراهب في أديرة الآباء الكرمليين لكنه نذر جل حياته ليس للمذهب الديني وإنما للغة العربية وآدابها وتاريخ المذاهب والطوائف المتعايشة منذ أقدم العصور فوق الأرض العربية قبل أن تمزقها العصبيات.
كان دائما يقدم أصله العربي على مذهبه النصراني فحاز بذلك على محبة وتقدير مشائخ وعلماء وأدباء وسياسيي عصره في العراق والشام ومصر. في أيامه كانت منطقة الجزيرة العربية تغط في نوم الأمية العميق حتى جمع الله شملها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه الله-. كانت اللغة العربية عند أنستاس الكرملي أجمل اللغات وأغناها. يقول عنه الأديب العراقي محمد فاتح توفيق: لقد بلغ من حبه للفصحى أنه كان يصغي بشغف إلى القرآن الكريم، وما مرة زاره فيها مقرئ العراق الشهير الحافظ مهدي إلا وألح عليه بأن يتلو على مسامعه آيات من الذكر الحكيم فيشق ذلك الصوت الرخيم سكون الدير وأنستاس الكرملي مستغرق في الاستماع إليه بكل جوارحه. للاكتفاء والاختصار سوف أذكر من مآثره اثنتين فقط هما مجلس الجمعة الأسبوعي الذي كان يحضره أعلام الثقافة والسياسة من مسلمين سنة وشيعة ومسيحيين ويزيديين، وكذلك إصدراه مجلة العرب شهريا بمحتوى راق ٍ في البحوث الأدبية واللغوية والتاريخية وعلوم الآثار.
أسمي من الأعلام الذين كانوا يحضرون مجلسه يوم الجمعة مصطفى جواد ومحمد رضى الشبيبي والملا عبود الكرخي والأستاذ حامد الصراف، فقط للتمثل بأسماء أفترض أن بعض القراء يعرفون عنها شيئا أو سمعوا بها.
يقال عنه إنه عندما يسمع غلطة في العربية يقول: إذا لم يتم تصحيحها سأقاطع صاحبها، بل سأبصق عليه. كعربي يعارض الاحتلال لاحقته وسجنته الإدارة العثمانية الحاكمة في العراق آنذاك مثله مثل الكثيرين من الوطنيين العرب في العراق وبلاد الشام ولكنه لحسن الحظ وجد شيئاً من الحفاوة والتكريم بعد ذلك. عندما جرى تكريمه في دار رئيس وزراء العراق محسن السعدون ألقى أحمد حامد الصراف قصيدة في الإخاء الوطني العراقي واحتفاء بالمكرم ومنها هذان البيتان:
وعشنا وعاشت في الدهور بلادنا جوامعنا في جنبهن الكنائس
وسوف يعيش الشعب في وحدة له عمائمنا في جنبهن القلانس
واحسرتاه، أين عقليات التآخي في ذلك الزمان من عقليات التفجير والتناحر المذهبي والطائفي القائمة اليوم في العراق.
ملاحظة: يستند إيراد المعلومات في هذه المقاله على ما أورده الكاتب العراقي نبيل يونس دمان عام 1997م بمناسبة مرور ستين عاما على وفاة الأب أنستاس الكرملي كدعوة لوقف العنف الطائفي في العراق.