أتاح لي مجال تخصصي (التاريخ), وكذلك مجال عملي السابق (باحث في دارة الملك عبدالعزيز بالرياض لمدة خمس سنوات) أن أجمع بين العلم والعمل التاريخيين ما أمكن، وأن أطلع على العديد من الوثائق التاريخية، وأن أكوِّن رصيداً لا بأس به من المعلومات عن بعض الشخصيات التاريخية.
ولكوني من عائلة عملت في خدمة الدولة من خلال قيام عدد كبير من أفرادها بالعمل في إمارة المنطقة والمراكز التابعة لها على الحدود، فجدي ووالدي وأخوالي ممن عملوا في إمارة منطقة القريات ومفتشية الحدود الشمالية الغربية، ومنهم من لا يزال حتى الآن على رأس العمل منذ أكثر من ثلاثين سنة، يؤدون واجباتهم نحو دينهم ومليكهم ووطنهم.
ولاتصالي بالأمراء القدماء للمراكز التابعة لإمارة المنطقة من أمثال الشيخ الطرقي بن فلاح الخيال -حفظه الله-، والشيخ جدوع الوصيوص الشراري -رحمه الله-؛ وبمن عملوا مع أمراء المنطقة -وفي مكاتبهم الخاصة أيضاً- من أمثال الأستاذ إبراهيم بن محمد حبرم متعه الله بالصحة والعافية، وكذلك؛ جمعي للمادة العلمية خلال إعدادي لرسالة الدكتوراة في التاريخ الحديث والمعاصر، والتي أمضيت فيها قرابة الأربع سنوات, في موضوع: (تاريخ منطقة القريات في عهد الملك عبدالعزيز 1344-1373هـ من خلال الوثائق التاريخية).
كل ذلك مكنني من أن أطَّلع على عظم شخصية الأمير عبدالعزيز بن أحمد السديري -رحمه الله-, وعظم إنجازاته التي قدمها للمنطقة, وتكوَّن لديّ بذلك رصيد لا بأس به عن هذه الشخصية الفذة, وذلك من خلال ما هو مدون عنه في الوثائق المحلية والعربية والبريطانية.
وليعلم الجميع, أني هنا لست بحاجة إلى التزلف بالثناء على هذا الأمير, فقد انتهى عمره المقدر له رحمه الله, وما أسطره عنه هنا إنما هو من باب أداء الحق التاريخي والأمانة العلمية, وكلمة الحق تجاه ذلك الرجل رحمه الله تعالى.
على أني أجزم, وأنا أسطر هذه الأحرف عن شخصية الأمير الجليل عبدالعزيز بن أحمد السديري أن ما أكتبه هنا لن يفيه حقه, ولن يمثله قدره, لكني أعدها مفاتيح لجهود قادمة, قد تفي بشيء مما يستحقه ذلك الأمير تجاه ما قدمه خدمة لدينه ووطنه.
وإنه على الرغم من كثرة الأمراء الذين تولوا إمارة منطقة القريات قبل الأمير عبدالعزيز السديري، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا ما فعله ذلك الأمير، وربما كان لديهم من العذر ما يشفع لهم رحمهم الله جميعاً.
إن تاريخ منطقة القريات: (النشأة والتأسيس، البناء والتطوير) يرتبط بالأمير عبدالعزيز السديري ارتباطاً وثيقاً, تلك المنطقة التي كانت تشمل -في ذلك الوقت- كل الشريط الحدودي الشمالي للمملكة العربية السعودية، الملاصق لأراضي شرقي الأردن.
كيف لا, وهو من صنع كثيراً من أحداثها بما تمليه عليه حكمته وحنكته وبصيرته من آراء كان يطرحها بين يدي جلالة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، فينال بذلك مباركته ودعمه.
وفي هذا المقام، يجدر بي أن أسلط شيئاً من الضوء التاريخي على سيرة الأمير عبدالعزيز السديري الحافلة بالأمجاد، فأقول وبالله التوفيق:
ولد الأمير عبدالعزيز بن أحمد السديري سنة 1327هـ, والتحق في سن مبكر بخدمة الملك عبدالعزيز, حيث منحه الملك ثقةً عالية, أثبتت الأيام -فيما بعد- أنه أهل لها بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى, حيث عينه في يوم الثلاثاء 16 من ذي الحجة 1351هـ، الموافق 11 من إبريل 1933م أميراً على منطقة الجوف، واستلم الإمارة في يوم الأربعاء الأول من محرم 1352هـ، الموافق 26 من إبريل 1933م.
ليس هذا فحسب بل رُبطت به -وهو أمير لمنطقة الجوف- إمارة منطقة القريات سنة 1354هـ, إضافة لأعباء إمارته في منطقة الجوف, وأنشأ في ذلك الوقت مركز العيساوية الذي لا يزال معروفاً بهذا الاسم في منطقة القريات.
وفي شهر محرم 1357هـ - مارس 1938م عُين الأمير عبدالعزيز السديري أميراً لمنطقة القريات ومفتشاً للحدود الشمالية الغربية, وكانت في ذلك الوقت منطقة واسعة جداً, تبدأ من نقطة التقاء رأس المثلث الحدودي، الذي يجمع بين الحدود (السعودية - العراقية - الأردنية)، عند جبل عنازة شرقاً, وحتى خليج العقبة شمالي البحر الأحمر غرباً.
وقد كان أول عمل قام به رحمه الله تعالى هو تأسيس قصر طيني للإمارة في النبك سنة 1357هـ, حيث انتقلت إليه الإمارة من كاف في السنة التالية, وذلك بعد موافقة الملك عبدالعزيز على ذلك, فاتخذه الأمير عبدالعزيز السديري مقراً للدوائر الرسمية، وكان ذلك إعلاناً ببدء مرحلة التطوير في الموقع الحالي لمحافظة القريات.
ليس هذا فحسب، بل إنه قام بإنشاء العديد من القصور الحكومية، والمخافر الحدودية، حرصاً على هذه الممتلكات الشمالية لهذه الدولة الفتية، وخوفاً من ضياعها في أيدي الطامعين بها في ذلك الوقت من قبل الحكومات المجاورة.
كما استطاع الأمير عبدالعزيز السديري رحمه الله أن يصلح الأحوال الاجتماعية والاقتصادية لبادية المنطقة: (الشرارات، والرولة، وعنزة، وبلي، والعوازم، وغيرهم)، وذلك أنه نجح في إقناع معظمهم بالاستقرار، بعدما ألفوا حياة الترحال, وذلك عن طريق مشروعه التاريخي المعروف ب: (مشروع إنعاش البادية في المنطقة)، والذي كان يقدم لهم من خلاله الآلات الزراعية الحديثة والأراضي الصالحة للزراعة مجاناً, فأسهم ذلك كله في بناء المجتمع وتطوره. (3- صورة رسمية للأمير عبدالعزيز السديري رحمه الله).
وكذلك قام رحمه الله بتأسيس: (صندوق البر والإحسان) في المنطقة، والذي كان له أثره الاقتصادي والاجتماعي على سكان القريات حاضرةً وبادية.
ولقد كان الأمير عبدالعزيز السديري ممن ساهم في دعم مسيرة تعليم أبناء وبنات البادية في المنطقة, حيث تبرع أكثر من مرة بأجزاء من ممتلكاته الخاصة لأجل إنشاء مدرسة لتعليم أبناء وبنات المنطقة فيها.
وكان رحمه الله صاحب قرار في مسيرة التعليم بالمملكة العربية السعودية, وكان أول مؤسس لأول مدرسة للبنات في المملكة العربية السعودية سنة 1370هـ-1950م, كما أنه أسس أول مستوصف صحي في منطقة القريات خلال تلك السنة.