الرحلات من أوسع أبواب المعرفة والثقافة الإنسانية؛ وفي صبيحة يوم الخميس الموافق 19 من رجب 1431هـ غادرت الرياض على متن إحدى طائرات الخطوط الجوية العربية السعودية متوجهاً نحو صلالة في عمان، وكنت خلال الرحلة التي استمرت زهاء ساعتين استعرض عمان وتاريخها ومعالمها وعلماءها وآثارها، وكانت الطائرة تسير بنا بين شعاب الجزيرة العربية وأوديتها ووهادها وجبالها وقممها الشامخة ورياضها الجميلة مردداً قول أبي الطيب:
|
إذا مضى علم منها بدا علم |
وان مضى علم منه بدا علم |
ولكم توحي تلك المناظر بتاريخ عريق وما تزخر به من ذكريات ومجد وخطوب وتاريخ خالد، وكانت الشمس في أوج إشراقها والسماء صافية الأديم تشرق على الهضاب والواحات والقرى والرمال والنخيل وكنت أرنو لتلك الأودية والشعاب ومشاهدة تلك الهضاب مستعرضاً أقوال الشعراء كقولهم:
|
تمتع من ذرى هضبات نجد |
فإنك موشك ألا تراها |
وخلال الرحلة طاف بي الخيال وحلق في أجواء التاريخ فذكرت من أعلام عمان الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العروض وصاحب كتاب العين وابن دريد صاحب كتاب الجمهرة والشاعر المشهور وأبا العباس والمبرد صاحب كتاب الكامل، ولقد كانت عمان تسمى قديماً (بمزون) كما وردت في قول الشاعر العماني:
|
إن كسرى سمى عمان مزونا |
ومزون يا صح خير بلاد |
بلدة ذات زرع ونخيل |
ومراع ومشرب غير صاد |
وذكرت قول شاعرهم الذي وفد مع قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
|
إليك رسول الله خبت مطيتي |
تجوب الفيافي من عمان إلى العرج |
ثم قطع على تلك الذكريات صوت مذيع الطائرة بالاستعداد للنزول في مطار صلالة، وكنت أشاهد الجبال الشاهقة وبحر العرب يحيط بها من كل جانب، فعمان موقع متميز في أقصى الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية تطل على ساحل يمتد أكثر من 1700 كيلو، وفي المطار رأيت الإخوة العمانيين في منتهى اللطف والبشاشة والترحيب، وغادرت المطار متوجهاً صوب فندق (كراون بلازا) في صلالة النابضة بالحياة وبعبق التاريخ وأصالته، فهي مدينة تجذب الزوار مهما كانت اهتماماتهم، ولقد عرفت عمان كثغر عربي اشتهر بالتجارة والملاحة؛ وكان العمانيون رواداً للبحار منذ القدم وصناع السفن، وبعد أن استقر بنا المقام في الفندق أخذت في تنظيم برنامج لرحلات إلى الجبال والمتاحف والعيون، وكنت أشاهد على طول الطريق قلاعاً وأبراجاً وبحاراً وضباباً يجسد لوحة من الجمال؛ وشاهدنا العيون المائية وأودية مائية دائمة الجريان، ولقد قمت بعدة رحلات بصحبة صديق عزيز هو الأستاذ سالم العلوي وكان خبيراً بالطرق والجبال والواحات، وكانت صلالة بجنابتها الخضراء يعانقها الجبل الشامخ والبحر من كل الجهات وأشجار جوز الهند بكثرة، وكذا الموز والفافاي؛ والخريف هو عامل جذب خلال فترة الصيف حيث يأتي الناس من جميع أنحاء العالم للاستمتاع بمفردات الطبيعة الخلابة، المطر والجبال الغارقة في الضباب والوديان المكسوة بالخضرة والينابيع والشلالات والسهول الخصبة ومناظر الريف الاستوائي.
|
ولقد قمت بعدة زيارات لكل من آثار البليد الذي يحتوي على آثار إسلامية قديمة، وقد أدرج هذا الموقع ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو، كما قمت بزيارة لموقع خور روى الأثري «سمهرم» وكان اسماً لأحد الملوك قبل الإسلام، كما قمت بزيارة لبلدة «ثمريت» على بعد 77 كيلاً عن صلالة وشاهدت بحرها الصافي الجميل، وتناولنا الغداء في أحد مطاعمها في داخل البلدة القديمة، ولقد اشتهرت هذه البلدة بالأسماك وتجارة اللبان، ويعتقد علماء الآثار بأن ملكة سبأ جاءت إلى هذه المنطقة للتزود باللبان، وذهبنا في رحلة إلى وادي دربات وهو عبارة عن حديقة طبيعية ذات مناظر خلابة تتخللها الجبال والكهوف والسهول الخضراء وأنواع مختلفة من الحياة البرية؛ وخلال رحلة إلى الجبل مررنا بمكان يسمى ضريح النبي أيوب عليه السلام على بعد 35 كيلاً من صلالة، وبالقرب منه توجد عين ماء، ثم ذهبنا بعد ذلك في صباح يوم مشرق جميل إلى عين «أرزات» حيث شاهدنا بعض الينابيع الطبيعية التي تتدفق من وسط الصخور ثم تنساب في مجرى يتفرع وسط البساتين الخضراء، ومنها إلى عين «جرزيز» وهي تبعد حوالي 14 كيلاً عن صلالة، ويوجد بموقع العين عدد من الكهوف ومظلات لاستراحة الزوار ومنها إلى عين «صحنوت» والتي تقع شمال شرق مدينة السعادة وتبعد 15 كيلاً عن صلالة، ولقد شاهدنا موقع العين والمناظر الجميلة بجوارها، ثم انتقلنا بصحبة الصديق سالم العلوي الخبير بهذه الأماكن إلى عين حمران وعين أثوم ومنهما إلى طاقة وهي بلدة ساحلية لها تاريخ عريق وتبعد عن صلالة بحوالي 33 كيلاً تطل على شاطئ رملي جميل؛ ومن أبرز معالمها التاريخية حصن طاقة، ثم ذهبنا إلى جبل «سمحان» وهو جبل شامخ ومنه إلى مرباط لمشاهدة الفندق الجديد الذي أقيم حديثاً وهو ماريوت، ويبعد عن صلالة 77 كيلاً ويطل على البحر، وبعد زيارة «طاقة ومرباط» ذهبنا إلى مركز البلدية وهو الموقع الأساسي الذي تقام فيه فعليات مهرجان صلالة السياحي، حيث يتضمن قاعات تقام فيها عروض وأمسيات المهرجان ومسرح خاص للأطفال وقرية تراثية شاملة وخلال التجول في ربوع هذا المكان وفي كل بقاع منطقة ظفار الجميلة والمتنوعة ما بين تراث وآثار وعيون وقلاع ومناطق وجبال تنطق بذكريات تاريخ حافل نظمت قصيدة مطلعها:
|
من الرياض ومن بدر ومن أحد |
جئنا صلالة دار الود والحسب |
تحية ملؤها الإخلاص مفعمة |
بالشوق والحب من نزوى إلى حلب |
وهي قصيدة طويلة أوحت بها هذه الرحلة التي أضافت لي الكثير من المعلومات بما شاهدته في هذا البلد الشقيق وأهله الأوفياء الطيبين، حيث جمع بين تاريخ حافل بعراقة الماضي وآفاق المستقبل، وبعد تمضية أيام ممتعة في ربوع ولاية ظفار ودعت صلالة مردداً قول الشاعر العربي:
|
بنفسي تلك الأرض ما أجمل الربا |
وما أحسن المصطاف والمتربعا |
|