يرى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت أن «الطبيعة آلة دقيقة الصنع» يستطيع الإنسان أن يشرح عناصرها، وأن يفسر تركيبها، بل يستطيع أن يصنع «آلات تشبهها» رأى ما رأى اعتماداً على علم الرياضيات، وعلى إيمان شديد ب»التصور العلمي للعالم» الذي يتيح له أن يستعمل عقله المبدع كما يريد، دون أن يخضع إلا لما يقره العلم ويقبل به. ولعل هذا الإيمان الذي نصب «الإنسان العلمي» سيداً على العالم، هو الذي جعل الفرنسي الآخر جول فيرن رائداً كبيراً من رواد الخيال العلمي، مستبقاً اكتشافات لاحقة عنوانها الأكبر «الرحلة» رحلة إلى مركز الأرض، وعشرون ألف قدم تحت البحر.. كان مجاز الرحلة تعبيراً عن قدرة الإنسان على الانتقال من المعلوم إلى المجهول، ومن المحدود إلى غير المحدود.
ولعل هذا التفاؤل الطليق بإمكانيات العلم الحديث هو الذي جعل مثقفين وفلاسفة من عصر النهضة الأوربية يستعيدون صورة البطل الأسطوري اليوناني «بروميثيوس» الذي سرق نار الآلهة كي يوزع العلم والمعرفة على البشر، لهذا استلهمه الألماني غوته وهو يكتب عمله العظيم «فاوست». حلم هؤلاء وغيرهم بتحويل الأسطورة اليونانية إلى حقيقة مستمدين الثقة من ثورات علمية حديثة متلاحقة، أسهم فيها نيوتن وكبلر وكوبرنيكوس وآخرون. غير أن هذا التفاؤل الطليق عثر منذ بداية القرن الثامن عشر على من يعارضه، محذراً من سوء استخدام العلم ومن عجز الإنسان عن التحكم بنتائجه، وقد عبرت الإنجليزية «ماري شلي» عن تشاؤم شديد في عملها الأدبي الشهير «فرانكشتاين» الوحش الذي أنتجه العلم أو «العلم المتوحش» الذي يدمر الإنسان عوضاً عن أن يأخذه إلى الفردوس المنشود، وبعد ذلك بعقود انتقد الاشتراكي الطوباوي الإنجليزي :ج،هـ.ويلز الإسراف العلمي في روايته «آلة الزمن» حيث يصير البشر آلات بدل أن تكون الآلات العلمية في خدمة الإنسان .أما آلدوس هكسلي فقد طرح في روايته «العالم الجديد الطريف» موضوع العلاقة بين العلم والأخلاق، إذ العلم بلا أخلاق يفضي إلى الجحيم وإذ الإنسان بلا علم «فراغ» لا يُحسن الوقوف.
إن العلم قد أنتج الكهرباء والدواء وأدوات المواصلات لكنه لم يشبع حاجات إنسانية كثيرة! وأعطى القنبلة الذرية وإمبراطورية الأسلحة الكيميائية التي تنشر ما شاءت من الأوبئة عندما يشاء صاحب القرار، وانتهى العلم إلى الكوارث البيئية التي اغتالت الغابات والحيوانات والطيور،.. وجواب السؤال معروف ومتداول: إن معنى العلم من أخلاق السياسات العلمية التي قد تشفي طفلاً مريضاً في غابات إفريقيا أو تشعل النار بالغابات وسكانها. يحيل السؤال مباشرة على العلاقة بين المعرفة والحداثة وأحلام التنوير، ذلك أن تنويري القرنين السابع عشر والثامن عشر اعتقدوا بفرح كبير أن العلم الحديث قادر على التصدي لجميع أنواع الكوارث. لكن للتاريخ مساره الماكر فقد جاء العلم بكوارثه الناتجة عن مجالات الحرب والدمار، وما أعقبها من كوارث تركت ملايين من البشر يعانون الموت البطيء. لا غرابة أن يصبح موضوع الكارثة في السنوات الأخيرة موضوعاً رائجاً يكتب عنه الفلاسفة والأدباء, كما لو كان في تواتر الكارثة قديماً وحديثاً ما يشكك في جدوى العلم، ولو بقدر، ويطالب بمسؤولية أخلاقية جديدة، يحتاجها، الإداريون الكبار الذين يستخدمون العلماء ومخترعاتهم وكشوفاتهم ويتعاملون مع الطرفين ببلاغة قديمة عنوانها: النصر والهزيمة، السيطرة والإخضاع والربح والخسارة.. لا يصدر السؤال، في النهاية عن دَوْر العلم الاجتماعي في قديمه وحديثه، بل عن خيار لم يعثر البشر عن حل له بعد: الحقيقية أم المصلحة؟ يبدو أن أبدية الالتحاق بموكب المصلحة جزء من طبيعة البشر، سواء امتلكوا عقلانية, أم ارتضوا بأمية كاسحة مجتهدة التوالد! مع ذلك فإن الفرق بين العلم والجهل واضح كلمع البرق: يستطيع الطرف الذي امتلك المعرفة أن يقرر مصير ذاته ومصير غيره بينما ينتظر «الجاهل» الكارثة التي تسقط على رأسه!!!.