ويواصل الأستاذ سعد نقده لديوان الإنسان ذلك الشيء ويقف عند قصيدة: «بين الدخول وحومل» التي منها: «فارتج من سطوة القول. وانهار حتى إذا ما تشاوى هرب»، فتصبح تشاوى تشادى. وكذلك في قولي:
«والنّفس كالنفس مشحونة بالرُّغب»، فتُكتب الرّعب؛ وشتّان بين الكلمتين وزنًا ومعنى، خاصّة في زمننا هذا. ويغيّر الكلمات حينما يعمد إلى نثر كلمات الشّاعر كقوله: «لأن الفأس يجتث من الرأس نزق الشعر.. ويحتز ما شذ في الجسد من عصب»، وهي ما شدّ أجسدنا من عصب، وليست ما شذّ في الجسد من عصب. ثمّ يحكم على القصيدة، بعد أن عصف بها عصفًا شديدًا، بأنّها سرد روائي إنشائي، ويبدي رضاه عن خاتمتها.
وقد يذهب بعيدًا في فهم المعنى؛ مثل ما حصل في قصيدة «عندما يتآلف الشعراء: نظرة من خارج المؤتمر»، التي تتحدّث عن أمّة معيّنة من الشّعراء، أقاموا مؤتمرًا خاصًّا بهم، في بلد ما، وما رأيت في قضاياهم الّتي تداولوها خيرًا، فخاطبتهم بها. وإذا أخرجت هذه القصيدة عن هذا المفهوم ضاع معناها. جاء في هذه القصيدة:
«يا أيّها الشّعراء إنّي قائل ما تكرهون/ هب أن ذاك الخنجر المسموم أصبح وردةً بيضاء تبعث في مدى المحراب أطيافًا تُسرُّ بها العيون/ هل تنتدون وتحمدون الله إذ كان السّلام بلا جنون؟/ أم تهربون إلى تخوم الأرض حيث البيئة الأولى التي لا ترهق السّاعي إلى بذر الظنون؟»
هل الشّاعر يشير هنا إلى من اغتاله خنجر الغدر وهو قائم يصلّي في المحراب؟. والنّاقد يقول: «نحن معه في أن يتحول الخنجر المسموم إلى وردة بيضاء تبحث في مدى المحراب عن أطياف تسر بها العيون كما يقول؛ ولكن تبقى الأمنيات وحدها رهن التطبيق على أرضية الواقع.. والواقع المعاش لا منطق له لأنه ينطق بلغة غريبة عن مدراك العقل». ومع قبول هذا الشّرح، إذ يمكن للنّص أن يُفسّر على أكثر من وجه؛ مع أنّه جعل الوردة تبحث عن أطياف قد جعلها الشّاعر تبعثها من ذاتها؛ فالأولى منه أنّ الشّاعر يقول للشّعراء لو أنّ الخنجر كان وردةً، هل تستطيعون أن تكتبوا شعرًا يعبّر عن هذا المعنى، أم أنّكم لا تنتشون طربًا إلاّ لسيئ من القول؟ فإحالة المعنى من الماضي إلى المستقبل أضعف القصيدة.
وقال كلامًا لم أفهمه قبل هذا المقطع من قصيدة «ضلال اللّغة»:
«أيا صاحب الغدر/ لو لجَّ قول الفتى بالعثار/ فالنفس بالفكر متسقة.
أين أضحى الذي ابتعثه من لئام/ وأين الذي بعثني من مقه؟».
فشوّهه بجعل ابتعته ابتعثه، وجعل كلمة تسامٍ لئام، وجعل بعتني بعثني، وجعل مقة مقه. وقد سمّى هذه القصيدة «ظلال اللّغة»، وهي في أصلها «ضلال اللّغة»، وفرق كبير بين الظلال والضلال. ولو قنعنا بدور غيره في بعض الكلمات السّابقة، فماذا عن دوره في هذه الكلمة. لقد صبغ القصيدة بفكرة ما في الذّاكرة، ولم يعط للنّص فرصة ليراه من خلال صبغته الخاصّة. إنّ مجرّد استبدال الظِلال بالضَلال في العنوان كفيل بتغيير معنى النّص إلى آخر كلمة فيه. أليس الفرق بين المعنيين كالفرق بين الظّل والحرور؟
وسمّاني في قصيدة: «رمضان الضيف الّذي يجلب القوت» بغير اسمي؛ حيث قال: «عن رمضان الضيف الكريم الذي يشبع الجياع ويسعد النفوس ويشنف الأسماع يقول الجهني»، يريد القرني، ثمّ يورد شيئًا من القصيدة. ألا يدلنا هذا على تعجّل النّاقد وضعف تركيزه في نقده. والأسوأ من التّعجّل وضعف التّركيز أن يكون استحضر نقدًا سالفاً لشاعر جهنيّ مستخدمًا ما تقدّمه التّقنية الحديثة من تسهيلات في الجمع والتّرتيب، وطفق يستبدل بعض النّصوص ببعضها الآخر، ونسي أن يستبدل اسم القرنيّ باسم الجهنيّ.
ويبدو أنّ هذه القصيدة راقت له، فقال عنها: «صورة وصفيّة خالية من الشوائب تؤكد قدرة شاعرنا على صياغة الحدث». ولأنّه ألزم نفسه بشيء من التوازن في النّقد ليرضي كلّ الأذواق، أكمل وقال: «لو أنه تأمل وتمهل في إملاءات شعره وخيارات مفرداته.. وإقحامه لجمل اعتراضية مرتبكة تسيء إلى الديباجة.. وتنتقص من قيمتها». لا غرابة في هذه الاستنتاجات فقد اعترى القراءة ما اعتراها من خلل بيّن.
ومن الملاحظ على النّاقد الكريم، أنّه إذا جاءت كلمات القصيدة سهلة ميسّرة مفهومة، قال عن أسلوبها إنّه إنشائي مباشرفيه جمل اعتراضيّة. وإذا جاءت المعاني وراء كلمات فيها شيء قليل من العمق، قال: إنّ أسلوبها غامض فيه شيء من التّعقيد الّذي يربك القارئ، ويأخذه بعيدًا عن القصيدة. كيف لي أن أرضيك أيّها النّاقد الحصيف؟
ويأتي إلى قصيدة الدائرة فيراها أرحب أفقًا وأكثر شفافيّة وإشراقًا؛ ولكنّه يحذف حرف أن في عبارة: «وتارة يكاد أن يخترق المحيط»؛ ويأتي إلى مقطع: «فساعة مخطّط وساعة يخذله التّخطيط»، فيجعل كلمة مخطّط مخططة.
ويقف عند قصيدة «إرهاصات الحبّ الأخير» فتعجبه؛ ولكنّه ينقل مطلعها كما يلي:
«ارفق بنفسك ليس هذا وقت تشتيت النظر/ أنسيت ما بيني من الماضي وما بين الحوار؟»
فجعل الحور الحوار. يبدو أن ناقدنا متأثّر بثقافة الحوار التي يتغنّى بها العالم المحموم بغيرها. ويعلّق بقوله: «مقطع جميل من رسالة حبه تؤكد قدرة شاعرنا على إعطاء شعر أجمل وأفضل حين لا يتعجل.. فالصورة كما قرأتها موحية بالعذوبة والرقة والعتب». ها هو يشير إلى التّعجل في موضعين من نقده، فأينا، يا ترى، أعجل من صاحبه: الشّاعر أم النّاقد؟.
ويختم نقده لهذا الديوان بالنّتيجة التّالية: «أقول لصديقي د. ظافر القرني وبكلّ صدق في ديوانك ما شدني إليه.. فهما.. وفيه ما أبعدني عنه هضماً ربما لعيب أتحمله.. أو لغموض في تركيبته واجترار في جمله يتحملها غيري.. بكل الصدق أشد على يدك على أمل عطاء متجدد، متوهج بالصور والمعاني، والأخيلة». شكرًا جزيلاً لك أيّها الأديب الكريم؛ وأنا أقول بدوري: ليس لنا بعد هذا النقد المشاب بشوائب ظاهرة لم تستطع خبرة الشّاعر الناقد الأستاذ سعد البواردي الطويلة أن تتلافى ما له يد فيه، إلاّ أن نقبل هذه النتيجة بكلّ رحابة صدر. وهيّا بنا بعدها لنقتطف من «ثمار الإنهاك» ما نستطيع تناوشه والصّبر على النّظر إليه.
أستاذ الهندسة المساحيّة / جامعة الملك سعود
dalgarni@ksu.edu.sa