يعتبر الخلاف بين الناس سنة ربانية، وحكمة إلهية، بسبب اختلاف العقول والأفكار، والأمزجة والنفسيات. على أن الاختلاف له أصوله وآدابه وقواعده، منه ما هو محمود،
وهو الاختلاف الذي يقوم على التنوع والتعدد، ومنه ما هو مذموم، وهو اختلاف التضاد والتباين. وبالإمكان العمل على ضبط الخلاف وفق قواعد الائتلاف، وقبل ذلك الالتزام بنصوص الكتاب والسنة، وأن تكون قدرات العالم الاجتهادية مبنية على فهم الواقع، وتلبية احتياجات المسلمين في إطار هذا الواقع. وهذا الخلاف الأصل فيه الرحمة والسعة، إلا إذا دخله الهوى وحظ النفس.
والناظر لواقعنا، يرى - مع الأسف - الشديد صوراً من الخلاف المذموم، يندرج في إطار نمط فكري موروث، ومسلك اعتقادي ضيق. فيضيق كل رأي برأي من يخالفه، وتتراكم حينئذ الأخطاء، وتنشحن النفوس، وتصبح بالتالي مدعاة إلى التفرق والتعصب. وتأمل قول الإمام الشاطبي - رحمه الله، حين علق على قول الله تعالى -: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم». فقال رحمه الله: «أخبر -سبحانه- أنهم لا يزالون مختلفين أبدا، مع أنه قد خلقهم للاختلاف، وهو قول جماعة من المفسرين، فالضمير في (خلقهم) عائد على الناس، فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما سبق في العلم، وليس المراد هنا الاختلاف في الصور والألوان والأشكال فقط، إنما المراد الاختلاف في الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به، أو يشقى في الدنيا والآخرة».
ولذا، لما كتب رجلٌ كتاباً، وجاء به إلى الإمام أحمد رحمه الله قال: هذا كتاب سميته «كتاب الخلاف»، فقال له: لا تسمه «كتاب الخلاف»؛ بل سمه «كتاب السعة». وهذا من فقهه - رحمه الله. بل إن بعض العلماء - رحمهم الله وصف اتفاق الصحابة رضي الله عنهم واختلافهم، بأن: «اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة». وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله: «والله ما يسرني أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو اتفقوا وأجمعوا لكان خلافهم ضلالاً، أما وقد اختلفوا فكان سنة، وفي الأمر سعة».
أعلم يقينا، أن ليس في موضوع الاجتهاد شيء اسمه صواب مطلق، فالاجتهاد في نهاية المطاف، ما هو إلا جهد بشري، من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد. ولذا ينسب إلى الإمام الشافعي - رحمه الله قول: «كل يؤخذ من كلامه ويترك، إلا صاحب هذا القبر»، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم. وكان الواحد منهم يقول: «اعرضوا رأيي على كتاب الله وسنة رسوله، فإن وافقهما، فالحمد لله، وإن خالفهما، فاضربوا به عرض الحائط».
ورغم الكم الهائل في كتب التراث، والذي نقرأه مرارا عن الخلق الرفيع، والأدب الجم، والحوار الراقي بين أهل العلم، إلا أنني كثيرا ما أقف عند سيرة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز - رحمه الله، واختلافه مع بعض علماء المسلمين، فكان من منهجه: أن يبدأ بتقديم الثناء على العالم، مع تقدير مكانته العلمية، ورقي عبارته الأدبية، دون أن يدعي بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، أو أن يحتكر لنفسه دون غيره حق تفسير النصوص وفهمها. وتأمل معي هذه السيرة العطرة في اختلافه مع أحد علماء عصره في بعض المسائل العلمية، وهو العالم يوسف القرضاوي، وحتى نكون منصفين، فلنقرأ ما كتبه القرضاوي في مذكراته، عن أدب هذا الخلاف الذي جرى بينهما: «ومما أذكره، أني تلقيت رسالة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية خلاصتها: أن وزارة الإعلام طلبت رأيه في كتابي «الحلال والحرام في الإسلام»؛ لأن بعض الناشرين طلبوا من الوزارة أن «تفسح» له، وكلمة «الفسح» غدت مصطلحاً معروفاً في المملكة، يُقصد به: الإذن بنشر الكتاب، ودخوله في السعودية. فلا غرو أن ذكر - الشيخ - ابن باز بأدب العالم الكبير، ورفق الداعية البصير، أنه يريد أن يفسح للكتاب، لما فيه من نفع للمسلمين؛ لسلاسته، وجمال أسلوبه، وأخذه بمنهج التيسير، ولكن المشايخ في المملكة خالفوه في ثماني مسائل. وسرد الشيخ - رحمه الله هذه المسائل الثماني، ومنها: ما يتعلق بزي المرأة وعملها، وما يتعلق بالغناء والسماع، وما يتعلق بالتصوير، وما يتعلق بالتدخين، وأني لم أحسم الرأي فيه بالتحريم، وما يتعلق بمودة غير المسلم... الخ.
وقال الشيخ - رحمه الله: وإن كتبك لها وزنها وثقلها في العالم الإسلامي، وقبولها العام عند الناس، ولذا نتمنى لو تراجع هذه المسائل؛ لتحظى بالقبول الإجماعي عند المسلمين. هذا وقد رددت تحية الشيخ بأحسن منها، وكتبت له رسالة رقيقة، تحمل كل مودة وتقدير للشيخ، وقلت له: لو كان من حق الإنسان أن يدين الله بغير ما أداه إليه اجتهاده، ويتنازل عنه لخاطر من يحب، لكان سماحتكم أول من أتنازل له عن رأيي؛ لما أكن لكم من حب وإعزاز واحترام، ولكن جرت سنة الله في الناس أن يختلفوا، وأوسع الله لنا أن نختلف في فروع الدين، ما دام اختلافاً في إطار الأصول الشرعية، والقواعد المرعية، وقد اختلف الصحابة والتابعون والأئمة الكبار؛ فما ضرهم ذلك شيئاً؛ اختلفت آراؤهم، ولم تختلف قلوبهم، وصلّى بعضهم وراء بعض. والمسائل التي ذكرتموها سماحتكم، منها ما كان الخلاف فيها قديماً، وسيظل الناس يختلفون فيها، ومحاولة رفع الخلاف في هذه القضايا غير ممكن، وقد بين العلماء أسباب الاختلاف، وألفوا فيها كتباً، لعل من أشهرها كتاب شيخ الإسلام «رفع الملام عن الأئمة الأعلام».
ومن هذه المسائل ما لم يفهم موقفي فيها جيداً، مثل موضوع التدخين؛ فأنا من المشددين فيه، وقد رجحت تحريمه في الكتاب بوضوح، إنما وهم من وهم في ذلك ؛ لأني قلت في حكم زراعته: حكم الزراعة مبني على حكم التدخين؛ فمن حرم تناوله حرم زراعته، ومن كره تناوله كره زراعته، وهذا ليس تراجعاً عن التحريم.
وأما مودة الكافر، فأنا لا أبيح موادة كل كافر؛ فالكافر المحارب والمعادي للمسلمين لا مودة له، وفيه جاء قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)المجادلة22، ومحادة الله ورسوله ليست مجرد الكفر، ولكنها المشاقة والمعاداة. وتعلم سماحتكم أن الإسلام أجاز للمسلم أن يتزوج كتابية، كما في سورة المائدة: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ)المائدة5، فهل يحرم على الزوج أن يود زوجته، والله تعالى يقول: (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) الروم21،، وهل يُحرّم على الابن أن يود أمّه الكتابية؟ أو يود جده وجدته، وخاله وخالته، وأولاد أخواله وخالاته؟ وكلهم تجب لهم صلة الرحم، وحقوق أولي القربى».
ثم قال - حفظه الله: «على كل حال، أرجو من فضيلتكم ألاّ يكون الاختلاف في بعض المسائل الاجتهادية الفرعية حائلاً دون الفسح للكتاب، وها هو الشيخ الألباني، يخالفكم في قضية حجاب المرأة المسلمة.. فهل تمنعون كتبه؟».
وختم كتابه بالتحية والدعاء.. وأعتقد أن الشيخ استجاب لما فيه، وفسح لكتاب: «الحلال والحرام»، ولغيره من كتبي، والحمد لله».
وأبى الشيخ يوسف القرضاوي بعد ذلك، إلا أن يثني على الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله فقال: «لم أر مثل الشيخ ابن باز في وده وحفاوته بإخوانه من أهل العلم، ولا في بره وإكرامه لأبنائه من طلبة العلم، ولا في لطفه ورفقه بطالبي الحاجات من أبناء وطنه، أو أبناء المسلمين عمومًا، فقد كان من أحسن الناس أخلاقًا، الموطئين أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون. ولقد رأيته في المجمع الفقهي يستمع وينصت إلى الآراء كلها، ما يوافقه منها وما يخالفه، ويتلقاها جميعًا باهتمام، ويعلق عليها بأدب جم، ويعارض ما يعارض منها برفق وسماحة، دون استعلاء ولا تطاول على أحد، شاديًا في العلم، أو متناهيًا، متأدبًا بأدب النبوة، متخلقًا بأخلاق القرآن. ولا أعرف أحدًا يكره الشيخ ابن باز من أبناء الإسلام، إلا أن يكون مدخولاً في دينه، أو مطعونًا في عقيدته، أو ملبوسًا عليه، فقد كان الرجل من الصادقين الذين يعلمون فيعملون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيصدقون، أحسبه كذلك والله حسيبه، ولا أزكيه على الله تعالى».
فمتى سندرك هذه السنة الربانية، والحكمة الإلهية، واستيعابها، ومعرفة أبعادها، وتبعاتها؟. ومتى سنتوقف عن الخوض في خلافات لا نجني من وراءها إلا الاتهام والتشكيك والطعن؟. ورحم الله الإمام الشافعي حين قال: «ألا يصح أن نختلف ونبقى إخوانا».
drsasq@gmail.com