سعادة مدير تحرير جريدة الجزيرة للشؤون الرياضية، الأستاذ محمد العبدي حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
تابَعَ غالبُ سكان العالم، وبخاصة الرياضيون قضية الأخطبوط الألماني ودوره في التوقعات بفوز فريق أو هزيمته، ويظن السامع للوهلة الأولى أن هذا الأخطبوط عرافٌ أو حيوان ناطق يتكلم ويتوقع. وإنما سمي بالأخطبوط مجازاً لا حقيقة، ولكن الحقيقة أنه حيوان بحري لا يعقل ولا يعلم ولا يدري عما يدور حوله شيئاً، وإنما هو امتداد لما عليه أهل الجاهلية في القديم والحديث وفي الشرق والغرب من التفاؤل والتشاؤم بحركات الطيور واتجاهاتها.
وقد جاء الإسلام محذراً منها أيما تحذير، وسوف أتكلم في هذا المقال عن هذه الظاهرة، وحديث الناس عن هذا الأخطبوط من عدة وجوه:
أولاً: الأخطبوط الألماني عبارة عن حيوان بحري تُوضع له أطعمة مغلفة بِعَلَمي الفريقين المتنافسين، فإذا أكل الوجبة المغلفة بعلم أحد الفريقين اعتقد الكثيرون ممن يؤمنون بهذا المنهج بأن الفوز للفريق الذي أكل الأخطبوط الطعام الذي غلف به عَلَمه، وهذا هو التطير الذي عُرِفَ عند أهل الجاهلية، مع اختلاف بسيط بين الهدف من استخدام الطير، فأهل الجاهلية إذا أرادوا سفراً أو زواجاً أثاروا الطير، فإذا اتجهت يميناً تفاءلوا وأصابهم الفرح والسعد. وإذا اتجهت يساراً تشاءموا وتطيروا، وأصابهم النحس. وتوقفوا وأحجموا عن الموضوع برمته؛ لاعتقادهم أن للطير دوراً في تغيير الحقائق والوقائع والسعادة والشؤم، وهكذا هم فإذا أكل علم فريق تفاءل أنصاره وتشاءم أنصار الفريق الآخر، بل تطور بهم الحال إلى تشاؤمهم من طيور بذاتها إذا ما رأوها، فتطيروا من الغراب، والبومة، والخفاش، والوطواط، فبعضها لمنظره الكئيب، وبعضها لصوته الحزين، حتى وصل بهم الحال إلى وصف البومة بأم الخراب، وأمَّا قمة تشاؤمهم فكان الغراب، فسبحان الله! ما علاقة الغراب وما تشوئم منه بسببه. إن المتأمل في القرآن يجد أن الله جعل الغراب مؤدباً ومذكراً وواعظاً ودالاً ومرشداً لابن آدم حينما قتل أخاه، فاسترشد ابن آدم بفعل الغراب، قال الله تعالى (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه) ولم يصل تشاؤم أهل الجاهلية عند هذا الحد فقط، بل تشاءموا بالعاطوس، وهي دابة كانت العرب تتشاءم منها في الجاهلية، وقيل بل هي سمكة، كذلك تشاءموا بالأخيل وهو الشقراق، طائر أعظم من الحمام حتى سمَّاه أهل الجاهلية مقطع الظهور، فإذا وقع على بعير ولو كان سالماً يئسوا منه، وإذالقيه المسافر تطير بالفقر على أقل الأحوال إن لم يكن الموت؟! وما أدري ما علاقة هذا بالفقر والموت، وتشاءموا بالثور الأعضب مكسور القرن، بل وتشاءموا من بعض الحركات، حتى إن المرء إذا انكفأ منه الإناء وصب ما فيه تشاءم واستاء، وقال هو أو مَن حوله: دافق خير. وتوسعت دائرة التشاؤم عند العرب في الجاهلية إلى التشاؤم من بعض الكلمات وبعض الشهور والأيام.
ثانياً: لم يكن التشاؤم مقصوراً على العرب في الجاهلية فقط؛ بل كان التشاؤم أيضا عند الفرس، ومما قيل عنهم:» أنه خرج بعض ملوك الفرس إلى الصيد، فكان أول من استقبله أعور، فأمر بضربه وحبسه، ثم خرج وصاد كثيراً، فلما عاد استدعى الأعور، وأمر له بمال، فقال الأعور: لا حاجة لي في مالك، ولكن! أتأذن لي في الكلام؟ فقال: تكلم، فقال: لقيتني فضربتني، وحسبتني، ولقيتكم فَصِدْتَ وسَلمتَ، فأينا أشأم؟ فضحك وخلاه». فما علاقة الأعور بالخير والشر والنفع والضر فيا سبحان ربي ما أجهلهم.
ثالثاً: لم يقتصر هذا التشاؤم على العرب والفرس؛ بل حتى الغرب الذي ظنَّ الناس أن العلم المادي غيَّر من سلوكه ومنهجه، ولكن الواقع خلاف ذلك؛ فالعلم المادي البحت لم يُغير من طباع كثير من أهل الغرب، مثقفين وغيرهم، كما غير الإسلام من سلوك أصحابه، وحرَّم منهج الجاهلية القائم على التطير والتشاؤم والشرك، وإليك الأمثلة والأدلة على ذلك:
(1) ها نحن نعيش الآن حدث الأخطبوط الألماني الذي فُتِن به كثيرون من أهل الغرب حتى وصل الحال إلى مُطالبة بعض مسؤولي الدول التي صدق توقعه بفوز فِرقها - وما أدري كيف صدق توقعه وهو يأكل غير عالم بأن أكله من لون علم سينفع أو يضر بمفهوم الجهال - بأن يُجعل تحت الحماية خاصة بعد أن هدد بعض منسوبي الدول المنهزمة بإرسال مجموعة من الضفادع البشرية لاغتيال هذا الأخطبوط الذي أصبح مصدراً للكسب، حتى اعتاد بعض السكان الألمان والسياح الوقوف لساعات طويلة منذ الصباح الباكر غير مُبالين بالأمطار، من أجل قطع التذاكر وإلقاء نظرة على هذا الأخطبوط الذي أصبح أكثر الحيوانات شهرة، وما أدري! ما الفرق بينه وبين بقية الأخطبوطات؟ وها هم الآن يلوحون بإمكانية التخلص منه ببيعه بصالة مزادات أو شيِّه على النار بعدما خالف أكله أمانيهم.
(2) لقد شجع هذا الأخطبوط بعض الأفراد إلى خوض هذه التجربة مع حيوانات أخرى، ومن ذلك التمساح الأسترالي (هاري) الذي يزن سبعمائة كيلو جرام، حيث اعتقدوا فوز الإسبان بناءً على توقعاته!!! عندما أكل دجاجة مُدلى فيها العلمَ الأسباني. وكذلك الببغاء السنغافوري، ولكنه اخطأ بحد زعمهم، فقد توقع فوز هولندا حسب ما يزعمون بكأس العالم ولكن اسبانيا فازت، فهناك من يتفاءل حينما يأكل ما غُلِّف بعلم بلاده، وهناك من يتشاءم ويتطير إذا لم يأكل ما غلف بعلم بلاده.
(3) يتشاءم كثير من أهل الغرب من الرقم (13) وهذا الرقم موضع تشاؤم في معظم أقطار أوروبا، حتى وصل الحال إلى أن بعض المرضى يخشون على حياتهم إذا رقدوا على أسِرَّة تحمل الرقم (13) وبعض أصحاب السيارات يرفضون اللوحات التي تحمل هذا الرقم، وأذكر هنا قصة ظريفة، حيث هددت امرأة بإنجلترا تقطن بمقاطعة (سانولك) بامتناعها عن دفع الضريبة المستحقة على دارها إذا لم يتم تغيير رقم دارها من رقم (13) إلى رقم (14). وكنت أظن هذا مقصوراً على الأفراد، وما ظننته يصل إلى الشركات والمؤسسات حتى قرأت أن بنك (ناشيونال وستمنستر) أحد أكبر بنوك إنجلترا تحاشى أن يرقم فرعه بالرقم (13) خشية من حلول كوارث؛ بل حُدثِّتُ من بعض الثقات أن بعض شركات الطيران في العالم لا تضع رقم (13) على مقاعدها، بل ويتشاءم بعض أهل الغرب بتقاطع سكينين على مائدة، فبمجرد حدوث ذلك توقعوا شجاراً، لأن شكلهما يذكر بصلب المسيح - المزعوم -» وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم» الآية. وإنك لتعجب من هذا التشاؤم والتطير عند كثير من أهل الغرب رغم التطور المادي المبهر الذي ما زال يستجلب الحظ أو يستدفع النحس بحيوان أكل وجبة بلون علم؟!.
(4) إن هذا التشاؤم والتفاؤل ينافي طبيعة الغرب وقوته العلمية، وجدِّية شعوبه، ولكن؛ هذه الجدية لم تقض على الخرافات؛ لأنها متعلقة بالاعتقاد، والعقائد الفاسدة لا تجلب لأصحابها إلا الشر.
(5) كنت أتوقع أن حادثة الأخطبوط (بول) ستنتهي بانتهاء كأس العالم، ولكنني فوجئت بصحيفة عربية تكتب ما نصه: (بات الرقم (10) يمثل كابوساً للاعبي إحدى الفرق في الوقت الحالي بعدما كان حلماً للكثيرين في الماضي، حيث كانوا يحلمون بارتداء الفانلة التي تحمل رقم (10) والتي كانت تعطي لحاملها خصوصية داخل الملعب وخارجه بأنه عنوان الفريق وأخطر لاعبيه، بل النجم الذي يتعامل معه الجميع بحساب. ولكن الأيام انقلبت على رقم (10)؛ حيث أصبح ارتداء هذا الرقم مرفوضاً، وأصبح الكثير من اللاعبين يهربون من ارتدائه خوفاً من الشبح الذي يطارد مَن يرتدي هذه الفانلة ويكون غالباً مصيره الاعتزال المبكر أو الرحيل عن الفريق، وقد كشفت أزمة أرقام الفانلات الجديدة داخل صفوف هذا الفريق حيث اعتذر كثير من لاعبي الفريق عن ارتدائه، فكل لاعب يعتذر عن ارتدائه، بل وأصبح كل لاعب جديد على هذا الفريق يُعرض عليه هذا الرقمُ يرفضه؛ لأن لاعبي هذا الفريق يعتقدون أن الرقم (10) كابوس مرعب لهم من خلال سوء الحظ الذي - يزعمون - الذي يلازم كل من ارتداه، فهو إما أن يصاب أو يعتزل مبكراً أو يبتعد عن قائمة الفريق، ويستدلون بما حدث مع بعض اللاعبين الموهوبين الذي سقط بعضهم مصاباً بمجرد أن لبسه، ثم انتقل هذا الرقم إلى لاعب آخر، فكانت نهايته الانتقال لفريق أقل. ثم أخذه لاعبٌ فتحول من أساسي إلى احتياطي، ثم استغني عنه فجأة، ثم ناله لاعب كانوا يتوقعون له مستقبلاً باهراً ثم أصيب، ثم تحول إلى دكة البُدلاء. ولذا؛ أصبح لاعبو هذا الفريق يخشون ارتداء هذا الرقم الذي تحول إلى كابوس وشبح الفشل وتوديع الملاعب مبكراً، وما أدري وأنتم كذلك لا تدرون، ما العلاقة بين هذه الخزعبلات والأرقام والحيوانات إلا الجهل المطبق.
(6) بل وصل الحال بالتشاؤم والتطير بأن بعض الفرق أصبحت تتأخر في النزول إلى الملعب لاعتقادها بأن تقدمها بالنزول سببٌ للهزيمة، والأشد من ذلك أن هناك من لا يؤمن بهذا المبدأ، ولكن يتعمد التأخر بالنزول من باب استفزاز الفريق المنافس، والحرب النفسية كما يزعمون وهذا الصنيع من التعاون على الإثم والعدوان، وما أدري ما العلاقة بين التقدم بالنزول أو التأخر والفوز أو الهزيمة.
(7) دلَّ ما سبق على أهمية العلم الشرعي الذي يقضي على هذه الاعتقادات الضالة بقوة الإيمان بالله. ولذا؛ فقد جاءت الشريعة الإسلامية بما يلي:
أ - أنها جاءت بالبديل لمن أراد أن يُقدم على شيء أو يحجم عنه بصلاة الاستخارة التي تصل العبد بربه، فليجأ المؤمن إلى ربه عند اتخاذ قرار، كزواج أو سفر مباح أو غيره.
ب - حرَّم الإسلام هذه الوسائل الخرافية، فقال - صلى الله عليه وسلم -:» لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر» أخرجه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم كما عند أحمد وغيره بسند صحيح:» الطيرة شرك» فالطيرة شرك أصغر لا يخرج من الملة، فإذا تطير المرء بشيء لا يُعد مشركاً الشرك الذي يخرجه من ملة الإسلام، لكنه يعد مشركاً شركاً أصغر من حيث اعتماده على هذا السبب الذي لم يجعله الله سبباً. واعتماده هذا يُوهن عزيمته ويضعف توكله على الله. ولكن هذا الشرك الأصغر قد يتحول إلى شرك أكبر يخرجه من الملة متى ما اعتقد هذا المتشائم والمتطير أن ما تطير به فاعل بنفسه دون الله؛ لأنه جعل لله شريكاً في الخلق والإيجاد. وللمزيد انظر: تيسير العزيز الحميد، والقول المفيد، وغيرهما من شروح كتاب التوحيد.
ج - لقد وضع الإسلام علاجاً لمثل هذه الاعتقادات من خلال عدم الالتفات لما قد يجده الإنسان في نفسه من رواسب التشاؤم الذي قد يوجد في بعض النفوس البشرية من قبل الظنون، كمن يسمع بومة تصرخ على بيته فيتوهم أنها تنذر بالخراب، فإذا وجدت هذه الإحساسات وتحركت عوامل التشاؤم، فعليه أن يتذكر أن الخير والشر من الله، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال معاوية بن الحكم: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منا رجال يتطيرون، فقال له صلى الله عليه وسلم: ذلك شيء تجدونه في أنفسكم، لا يصدنكم». أخرجه مسلم.
وعن عروة بن عامر قال: ذًكرت الطيرة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال:» أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك». وهذا الحديث فيه نفيٌ للتعلق بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر؛ وهذا هو التوحيد، حيث إن فيه دعاءً مناسباً لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة وتأكيد بأنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضُرَّا، وروى أحمد في المسند قوله صلى الله عليه وسلم: من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا: يا رسول الله! وما كفارة ذلك؟ قال: أن يقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك». قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح.
د - لذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يدركون أن الطيرة باب من الشرك، فقد ذكر عن سعد بن أبي وقاص وقال: أنه كان غازياً، فيما هو يسير إذ أقبل في وجوههم ظباء يسعين، فلما اقتربن منهم ولَّين مدبرات، فقال له رجل: انزل أصلحك الله، فقال له سعد: ماذا تطيرت؟ أمن قرونها حين أقبلت، أم من أذنابها حين أدبرت؟ إن هذه الطيرة لبَاب من الشرك، قال: فلم ينزل سعد ومضى.
هـ - أخيراً؛ أعجبني كثير من أبناء الإسلام، من صحفيين وغيرهم من الذين انتقدوا هذا الأسلوب، وحاربوا هذه الخرافات، وانتقدوا من يؤمن بها، بل وأعلنوا صراحة عن أمانيهم بهزيمة الفرق التي توقعوا فوزها بسبب أكل الأخطبوط ما غلفه بها إعلامها. حرصاً منهم على عدم وصول هذه العقائد الفاسدة إلى أبناء الإسلام. وهذا يدل على سلامة الاعتقاد، ودور البيئة الصالحة والمجتمع السليم الذي يربي أصحابه وأتباعه على سلامة الاعتقاد، والتوكل على الله؛ فلنقف صفَّاً واحداً في وجه هذه العقائد الجاهلية التي يجلبها جهّال الشرق والغرب متوكلين على الله معتمدين عليه.
وبالختام؛ أشكر لجريدتكم الموقرة تفضلها بنشر مقالتي هذا الذي اسأل الله أن يجعلها في ميزان الجميع. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(*) عضو الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة والأديان
S555549291@gmail.com