Al Jazirah NewsPaper Tuesday  27/07/2010 G Issue 13816
الثلاثاء 15 شعبان 1431   العدد  13816
 

دفق قلم
قمم الجبال وهمم الرجال
عبد الرحمن بن صالح العشماوي

 

لم تكن الرحلة البرِّية التي صاحبتُ فيها بعض الأقارب من الطائف إلى أبها مروراً بالباحة كغيرها من الرحلات المعتادة، لقد كانت رحلة مفعمة بالذّكريات، ممزوجة بالخطرات والنظرات والعَبَرات، حتى شعرت أنني أسير منها في عَالَم آخر تتفاعل معه الروح، وتُعيد نسج خيوطه الذاكرة، ويُلَمْلِمُ أطرافه الذِّهن، غير ما تراه العين من جبال وسفوح، وأودية وشعاب، وأنني أطير فيها بجناحين خفَّاقين في آفاق لا حدود لها من قصص وأحداث شاهدتُ بعضها عياناً، ورُوي لي بعضها من أشخاص عاشوا من شظف العيش وتعب الحياة، وعناء الأسفار الطِّوال ما لم تعشه أجيالنا المتأخِّرة رحلة برِّية كانت السيارة فيها تنهب الأرض نهباً ممتطية صهوة ذلك الجواد الأسود الذي يمتدُّ مَتْنُه امتداداً عجيباً لا ترى العين له طرفاً، ويتميَّز عن غيره بصمته الطويل، وامتداده على الأرض ساكناً لا يتحرك، ساكتاً لا نسمع له صهيلاً، ولا حَمْحَمة، ولا تزعجنا منه جَلَبة.

بدأت هَجْمة الذكريات على ذهني مع بداية الخروج من مدينة الطائف المزدحمة بالباحثين عن الجو الجميل، والهواء العليل، المشتاقين إلى إيقاعات هزيم الرّعد، وابتسامات وميض البرق، في وقت يشعل فيه الصيف اللاهب أجواء المناطق الحارة من هذه المملكة المترامية الأطراف، المختلفة المُناخات والأجواء.

تذكَّرت تلك القصص المثيرة التي كنا نسمعها ونحن صغار من أصحاب الهمم العالية، والعزائم المتوقِّدة، والقلوب المطمئنَّة، والوجوه التي تشعُّ تجاعيد شيخوختها بأنوار الرِّضا واليقين، والثقة بالله ربِّ العالمين، قصص نقلت لنا صوراً من ماضٍ سبقونا إليه، وتعاملوا مع ما كان فيه من المشقّة والعناء تعامل الصابرين الصامدين.

السيارة التي كانت تقلُّنا تسير بسرعة لا تتيح لنا أن نستوعب ما نَقَشَه الماضي على الأرض من حولنا سهولاً وجبالاً وأودية وتلالاً من حروف وكلمات ترسم لنا تاريخ مَنْ سبقونا في هذه الحياة.

أمّا الأقدام التي كانت تحمل أجسام الأجداد وهم يقطعون هذه المسافات الطويلة ذهاباً وإياباً من أبها والباحة إلى الطائف ومكة، فما كانت تستطيع أن تبلغ عشر معشار سرعة السيارة، ولكنها كانت تتيح لهم من التأمُّل للأرض وما فيها وما عليها أضعاف ما تتيح لنا السيارة التي تسابق الرِّيح. ولذلك كان تفاعلهم مع معالم الطريق أقوى، وكانت علاقتهم بما يرون ومَنْ يلاقون أعمق، وكان إحساسهم بما يسيرون عليه من جبال وصخور وتراب أكثر إرهافاً وأعظم صدقاً.

لقد روى لي جدِّي لأمي (رحمه الله) من المواقف التي واجهها في رحلاته المتعدّدة من قرية عراء في بني ظبيان في منطقة الباحة إلى مكة المكرمة مروراً بالطائف المأنوس ما يثير الدَّهشة ويبعث على الإعجاب، وما يشعرني بهذا التطوُّر المدني المذهل الذي وصل إليه الإنسان في هذه المرحلة من الزمان.

وسيلة النقل عندهم القدمان، أو الحمير والجمال وما كانت هذه الأخيرة تتهيأ لهم دائماً، والرحلة التي نستغرق فيها بالسيارة ساعتين، كانوا يستغرقون فيها ما يقرب من عشرة أيام تنقص وتزيد بحسب ما يمرُّون به من المواقف والأحداث وعوائق الطريق وما أكثر تلك المواقف والأحداث وعوائق الطريق.

رحلة برِّية فتحت أمامي آفاق التأمُّل في هذه الجبال الشَّواهق الشَّوامق التي تكاد تناطح أو تعانق السَّحاب، جبال السَّروات بما لها من زَهْو التاريخ العريق، وبما تنطوي عليه من أخبارٍ وأسرارٍ عن أُمم سَلَفَتْ، وأحداث وقَعَتْ، فنقلتني إلى تلك الآفاق عقلاً وروحاً، حتى أصبحتُ أرى صور الماضي القريب والبعيد تلوح لي بارزة المعَالِم من خلال ما أرى من المباني الحديثة، التي تحوَّلت بها القرى الصغيرة إلى مدن كبيرة، ومن خلال ما أشاهد من أنفاق وجسور عملاقة، حطَّمَتْ عظمة تلك الجبال، وحاربت شموخها بالحديد والنار حرباً لا هوادَةَ فيها.

عاملٌ مشتركٌ واضح بين الطائف والباحة وأبها ألا وهو (الجوّ الجميل والهواء العليل، والغيوم المتراكمة، والأعداد الكبيرة من المصطافين).

أمَّا صور الذكريات فقد كانت الرفيق الصديق، المؤْنس في هذا الطريق.

إشارة:

علَّمتني صخورها كيف أبقى

شامخاً رغم قوَّة التيَّار

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد