يقولون: كانت طبيبة مخ وأعصاب في أحد المستشفيات الكبرى في المملكة، وتحمل درجة عالية تخصصية في مهنتها الطبية، ومع ذلك وجدت أن كل ذلك لا يُطعم عيشاً حسب طموحاتها، مثل أن تتحول إلى مهنة الحجامة، وتتاجر بما يسمى لدى البعض (الطب النبوي). وكما قلت في مقال سابق إن هناك فرقاً بين الطب في عصره صلى الله عليه وسلم والطب في عصرنا، لذلك كان يجب أن تسمى مثل هذه الممارسات الموروثة (طب العصر النبوي)، وليس (الطب النبوي). أن يوصف الطب الموروث من تلك القرون بأنه طب (مقدس)، أو (نبوي)، كالهدي النبوي مثلاً، فإن الضرورة الإيمانية تجعله من حيث سلم الأولويات يتقدم لدى الإنسان المسلم الملتزم على الطب الحديث؛ وهذا تدليس بل وغش. فالطب من علوم الدنيا، ونحن (أعلم بأمور دنيانا) كما قال عليه الصلاة والسلام؛ وليس هناك أكثر التصاقاً بهذا النص الصحيح الصريح من الطب وعلومه.
هذا أولاً.
أما ثانيا فقد فات على هذه الطبيبة التي جعلت من مهنة (الحجامة) مصدر رزق لها، مستثمرة الميل الشعبي إلى مثل هذه الموروثات، أن هناك خلافاً فقهياً في أجرة الحجام، ومدى حلها؛ فقد كره كسب الحجام كثير من فقهاء السلف استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (كسب الحجام خبيث). كما روى الترمذي عن ابن محيصة أخا بني حارثة عن أبيه: (أنه أستاذن النبي صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام، فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه، حتى قال: اعلفه ناضحك (أي بعيرك). وأطعمه رقيقك)..معنى ذلك أن أجرها الذي تتقاضاه نتيجة (مص) دماء الناس عن طريق الحجامة مسألة فيها نظر من الناحية الشرعية؛ بينما أنها لو بقيت على تخصصها كطبيبة مخ وأعصاب فلن تدخل رزقها، ورزق من تعول، إلى مسألة كان يجب أن تبتعد عنها طالما أن الأمر يكتنفه شبهة (الخُبث)، ولديها مصدر رزق لا يكتنفه ما يكتنف أجرة الحجام من شكوك؛ خاصة وهي كما يقولون امرأة مُلتزمة؛ هذا إضافة إلى أن الفريق الذي رأى فيها الإباحة أقر بأنها مهنة (دنيئة) كرهها صلى الله عليه وسلم (للحر) تنزيهاً وإكراماً له.
أعرف أن هناك أحاديث صحيحة وردت في فضل الحجامة على لسانه عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكنه كان يخاطب بها أصحابه، وأهل عصره، ولا يعني ذلك أبداً أنها صالحة لكل العصور؛ هذا تحميلٌ للأمور ما لا تحتمل. وأنا هنا لا أعترض على صحة الأحاديث التي تحدثت عن العلاج بالحجامة، لكنها تعبر عن الطب في عصره صلى الله عليه وسلم، وهو لم يبعث (طبيباً)، وإنما ُبعث هادياً ومبشراً ونذيرا ورحمة للعالمين؛ أي طبيب قلوب لا طبيب أبدان. ولا يعني البتة أن علاج عصره يصلح لكل العصور، وبالذات عصرنا، حيث تطور الطب وتقدم. ومن قال: بل يصلح لكل العصور؛ فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يعصب رأسه في مرضه الذي توفي فيه؛ فهل يعني ذلك أن عصب الرأس، كما كان يفعل عليه أفضل الصلاة والسلام، يُغني عن العلاج بالأدوية الحديثة؟
كل ما أريد أن أقوله هنا لسيدتنا الطبيبة المتفوقة التي هجرت مهنتها وتخصصها، وعادت إلى الطب الشعبي: عودي إلى مهنتك، وإلى طب التجربة والبرهان والعلم الثابت؛ فهذا أفضل لك، ولوطنك، وتبرئة لذمتك من دخل قد يكتنفه الخبث كما في الحديث.
إلى اللقاء.