إن الموت حق، وكلنا سائرون في هذا الدرب، ولكن خير البشر منا مَن تبقى ذكراه خالدة بأفعاله وأعماله الصالحة الخيّرة؛ قال تعالى: (َا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي).
سبحان الله الذي جعل الموت علينا حتماً محتوماً يأخذ منا أهلنا وأعزاءنا، كل يوم لنا فقيد عزيز على قلوبنا، وليس بأيدينا إلا أن ندعو الله للمتوفى بالرحمة والمغفرة, وأن نسامحه ونطلب من الله له المغفرة. الحياة أيام قلائل مهما عشنا ومهما طالت السنون فإنما هي كحلم أو لمح بصر تنقضي، نفقد أحبابنا وعلماءنا الإجلاء ونفقد أولادنا ووالدينا، نفقد الأخ والأخت، نفقد الصاحب والصديق... وهم سيفقدوننا، إنه الموت الذي يفر المرء منه إليه، يفر الولد من أبيه، ومن حضن أمه، ومن بين إخوانه وأخواته في لمحة بصر، والزوج من زوجته، نصحو على أمر عظيم، وأعظم من المصيبة الفقد، نصحو على واقع نرضى به، رضينا أم غضبنا، نجد أنه لا مناص من الصبر والاحتساب، والصبر في حد ذاته مر، ونجد أنفسنا بين أمرين لا ثالث لهما؛ الأول أن نبقى نبكي ونلوم أنفسنا ونلوم الزمن والقدر ونقول: يا ليت الذي جرى ما كان.. بالأمس كانوا معنا، واليوم رحلوا، ساعات الفرح لا تدوم طويلاً.. والابتسامة لا تبقى على الشفاه مرتسمة، والأمل لا يبقى دائماً حليفنا، وإن حاولنا، ولكن!!
ساعات الحزن تدوم بشكل طويل.. والحزن يبقى على الشفاه مرتسماً.. والحزن يصبح حليفنا في كل ساعة ودقيقة وثانية..
أمور كثيرة تجعلنا نبكي لفترة طويلة.. هذه هي الدنيا.. موت وحياة، وضحك وبكاء، فرح وحزن.. كثير منا فقدوا أشخاصاً يستحيل أن ننساهم مهما طالت الأزمان أو بعدت المسافات.. هم أشخاص رحلوا وتركوا بصمة في قلوب كل من قابلهم، أشخاص عانوا الكثير، فقط ليسعدوا حياة الآخرين..
فالحديث عن خصال معالي فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الغديان عضو هيئة كبار العلماء, عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء, فمحاسنه وسماته ومزاياه يعجز عنها اللسان؛ ففقيدنا الراحل العزيز الغالي يحتاج إلى صفحات كثيرة لذكرها، ولكن نكتفي ببعض منها لأفعاله وأعماله الخيّرة النبيلة، فإن ذلك هو الدليل الدافع له، لحبه لفعل الخير وبذل المعروف ونشر العلم والمكانة التي كان يتمتع بها طوال حياته رحمه الله رحمة واسعة.
لقد شهد لهذا الإنسان البعيدون قبل القريبين بالمواقف الإنسانية النبيلة التي خلفها وراءه.. أقول: إننا فقدنا عالماً جليلاً عزيزاً عطوفاً شفوقاً بشوشاً باراً لا يعوّض، وفقدنا عالماً قلّ أن يجود الزمان بمثله.. إنني مهما قلت وكتبت عن خصاله وسماته فلن أوفيه جزءاً يسيراً من حقه، إنه رمز للوفاء والشهامة والكرم ونبراس لمساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين وحبيب مقرّب من الناس وعاشق لأعمال الخير ونشر العلم والدعوة في سبيل الله، لا يبحث عن سمعة أو رياء، يعمل الخير ولا يريد إلا جزاء رب العالمين.. باختصار هو عالم متواضع مهيب في نبل رفيع، بشوش لا يطلبه أي إنسان في شيء إلا وجده ملبياً له دون انتظار لشكر أو مديح، كان وفياً أميناً حنوناً كريماً لمن يأتي إليه.
عاش حياته في بيت صلاح وتقى وعبادة وكرم، وكان عالماً شهماً متواضعاً لطيفاً، ابناً وأخاً للكبير وأباً للصغير، صديقاً للجميع، طيّب المعشر، ليّن الجانب، كيّس فطن، صاحب حنكة وبصيرة ثاقبة لا يمل مجلسه وحديثه، بيته وقلبه وأذنه ومكتبه مفتوح للجميع من حبه للناس وحب الناس له وحبه لتواصل صلة الرحم وطلاب العلم.. يتألم لما يؤلم الناس ويفرح لهم بما يفرحهم محل ثقة وتقدير من الجميع ومن يعرفونه، كان ينصح بنصح المحب ومحبة الناصح.. ويعطي كل من يقابله حقه من المعاملة الحسنة، وينزل الناس منازلهم، ويعرف لهم قدرهم، ويقضي حوائجهم، وكانت الابتسامة لا تفارق محياه دائماً.. مكتبه مفتوح، وأذنه صاغية، ورع تقي، قريب من الناس، له حضور أخاذ لدى المستمع والمشاهد، يعطف على الفقراء والمساكين والمحتاجين وييسر لهم أمورهم ويسد لهم حاجاتهم بقدر ما يستطيع.. ويجل العلماء وطلاب العلم ويدنيهم منه ويحترم آراءهم، ويُجادل بالتي هي أحسن ويدفع السيئة بالحسنة، وهو العالم الذي أود أن أسطر بعض كلمات الوفاء والعرفان بحقه، ولا أظنها ستفي؛ فهي ليست إلا جهد المقل العاجز، إنه ذلك العالم الذي عرفته دائماً حكيماً كبير الهمة صريحاً صدوقاً لم تغيّره الأيام والليالي والمناصب ولم تنل من همته السنون، بل هو في الواقع من زيّنها بعطائه العلمي وحكمته ووفائه ولطفه ودماثة أخلاقه وتفانيه وإخلاصه وبشاشته، إنه العالم الذي أجزم أن كل من عرفه - حتى ولو لبعض الوقت - يتفق معي أنه قد تملّك فيه جانباً من مودة خالصة وإعجاب عميق، بالطبع كثير هم أولئك الرجال الذين نلتقيهم في مراحل حياتنا ونعايشهم، ولكن قليل هم أولئك الذين يتركون في أنفسنا أثر الوفاء والحب العميق بحيث يبقى وجودهم فينا راسخاً نتعايش معهم في تجاربهم وحكمتهم ورؤيتهم الثاقبة.
توفى فقيدنا الغالي يوم الثلاثاء الموافق 18-6-1431ه 1-6-2010م صاحب المعالي فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الغديان عضو هيئة كبار العلماء, عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء, وصلي عليه - رحمه الله - بعد صلاة العصر يوم الأربعاء 19-6-1431ه في مسجد الملك خالد بأم الحمام في الرياض..( فإنَّا للهِ وإنَّا إليهِ رَاجِعُون).
ومعالي فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عبدالرزاق بن قاسم آل غديان من آل محدث من بني العنبر من بني عمرو بن تميم، ولد عام 1345هـ في مدينة الزلفي، وتلقى مبادئ القراءة والكتابة في صغره على عبدالله بن عبدالعزيز السحيمي، وعبدالله بن عبدالرحمن الغيث، وفالح الرومي، وتلقى مبادئ الفقه والتوحيد والنحو والفرائض على حمدان بن أحمد الباتل، ثم سافر إلى الرياض عام 1363هـ فدخل المدرسة السعودية الابتدائية (مدرسة الأيتام سابقاً) عام 1366هـ تقريباً، وتخرج فيها عام 1368هـ.
عُين مدرساً في المدرسة العزيزية، وفي عام 1371هـ دخل المعهد العلمي، وكان أثناء هذه المدة يتلقى العلم على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، كما يتلقى علم الفقه على الشيخ سعود بن رشود (قاضي الرياض)، والشيخ إبراهيم بن سليمان في علم التوحيد، والشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ في علم النحو والفرائض، ثم واصل دراسته إلى أن تخرج في كلية الشريعة عام 1376هـ، وعُين رئيساً لمحكمة الخبر، ثم نقل للتدريس بالمعهد العلمي عام 1378هـ، وفي عام 1380هـ عين مدرساً في كلية الشريعة، وفي عام 1386هـ نقل كعضو للإفتاء في دار الإفتاء، وفي عام 1391هـ عين عضواً للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، إضافة إلى عضوية هيئة كبار العلماء.
مشايخه
تلقى العلم على مجموعة من طلبة العلم في مختلف الفنون، ومن أبرزهم، إضافة إلى من سبق:
1 - سماحة الشيخ محمد بن عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ.
2 - سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز تلقى عليه علم الفقه.
3 - الشيخ عبدالله الخليفي في الفقه أيضاً.
4 - الشيخ عبدالعزيز بن رشيد في الفقه والتوحيد والفرائض.
5 - الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أصول الفقه وعلوم القرآن والتفسير.
6 - الشيخ عبدالرحمن الإفريقي في علم المصطلح والحديث.
7 - الشيخ عبدالرزاق عفيفي.
8 - عبدالفتاح قاري البخاري أخذ عنه القرآن برواية حفص عن عاصم، يسنده إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وغيرهم.
إضافة إلى ما سبق كان أثناء عمله من عام 1389هـ إلى اليوم الذي أقعده المرض «رحمه الله» وهو يقوم بتدريس الفقه وأصوله وقواعده، والحديث ومصطلحه، والتفسير وعلومه، والعقيدة، والفقه في حلقات منتظمة غالب أيام الأسبوع بحسب الظروف بعد المغرب وبعد العشاء، وأحياناً بعد الفجر وبعد العصر، ومن عام 1395هـ كان - إضافة إلى عمله في الإفتاء - يلقي دروساً على طلبة الدراسات العليا في جامعة الإمام وكلية الشريعة في الفقه والأصول وقواعد الفقه وقاعة البحث ويشرف ويشترك في مناقشة بعض الرسائل، وخلال هذه الفترة تلقى عنه العلم عدد كبير من طلاب العلم، كما رشح عام 1381هـ ضمن من ينتدبون إلى التوعية والإفتاء في موسم الحج، ولما توفي سماحة الشيخ عبدالله بن حميد عام 1402هـ، تولى الإفتاء في برنامج نور على الدرب.
نعزي فيه أنفسنا وجميع أسرة آل الغديان، ونخص بالعزاء أبناءه الأستاذ عبدالرحمن ود.سعود ود.محمد والأستاذ عبدالملك والأستاذ بندر والأستاذ ناصر وبقية أولاده وجميع أفراد أسرته، كما نخص بالعزاء صاحب المعالي والفضيلة رئيس هيئة كبار العلماء وجميع أصحاب المعالي والفضيلة أعضاء هيئة كبار العلماء وجميع محبيه وأصدقائه وجيرانه وطلابه وزملائه، سائلين الله أن يلهم الجميع الصبر والسلوان، وأن يرحمه رحمة واسعة، ويرفع درجاته يوم يلقى ربه، وأن يسكنه وجميع المسلمين دار كرامته.. إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا أبا عبدالرحمن لمحزونون.