لقد أنعم الله على هذه الأمة بنعمة الإسلام، ولن يقبل الله ديناً سواه، قال تعالى في الآية (85) من سورة آل عمران (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وأنزل إليها أفضل كتبه، وأرسل إليها أفضل رسله للناس كافة
بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. قال جل وعلا في الآية (125) من سورة النحل (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
ووظيفة الرسل جميعاً هي الدعوة إلى دين الله وتوجيه الناس إلى ما يصلح حالهم ومآلهم، وما يفي بشؤون حياتهم، وهكذا سلك نهجهم الخطباء والدعاة والمصلحين في عصرنا الحاضر، وذلك عن طريق الكلمة الطيبة والرسالة الهادفة والخطبة المنبرية النافعة والندوة والمحاضرة، وغير ذلك من الوسائل الدعوية المعاصرة.
إن مهمة إرشاد الناس وتوجيههم من المهام الصعبة، خاصة بعد أن تعددت وتنوعت أساليب الخطاب الديني في المجتمع المتحضر تبعاً لتنوع مجالات الحياة ليشمل أنحاء البلاد وكافة شرائح المجتمع، لا سيما في تنمية الوعي الديني والقيم الأخلاقية ونبذ التعصب والإرهاب والعنف الذي ابتليت به بعض المجتمعات، مما يزيد من مسؤولية الخطاب الديني في العصر الحاضر، فضلاً عن دوره في نشر الثقافة الإسلامية.
وبناءً عليه، فإن على المؤسسات الحكومية وغير الحكومية توظيف كافة إمكاناتها للعمل على النهوض بشؤون حياتها (العلمية والصحية والظروف المعيشية والسكانية والبيئية) مما أن يكون من شأنه دفع عجلة التنمية في سبيل تحقيق النهضة الشاملة، وهذا نوع من تطوير الخطاب الديني، بحيث لا يقتصر على الوعظ والإرشاد فحسب، فإن مهمته أوسع وأشمل من ذلك.
وحتى يتحقق هذا الدور جلياً فلا بد من التوسع في الزمان والمكان كي يتصف الخطاب الديني بالشمولية تبعاً لشمولية الإسلام لكافة شؤون الحياة، ولكي يؤدي دوره على الوجه الأكمل. أضف إلى ذلك أنه ينبغي التصدي لكافة التحديات والعوائق التي تحول دون تحقيق أهدافه.
ومن الوسائل المعينة على ذلك:
- نشر المفاهيم الإسلامية الصحيحة، وتنمية الوعي الديني بين أفراد المجتمع.
- إحياء رسالة المسجد وتعزيز دوره، وتحسين أوضاع القائمين عليه.
- تحديث أساليب الخطاب الديني وآلياته، وتأهيل الخطباء والمرشدين والدعاة وتنمية قدراتهم.
- تعزيز علاقات التعاون مع الوزارات والهيئات والجامعات والجهات ذات العلاقة من أجل الحفاظ على أمن الوطن ومكتسباته.
- على الخطباء والمرشدين الالتزام بحرية الرأي وأدب الحوار وفق القواعد الشرعية، والبعد عن التجريح والإساءة والتعصب والحزبية واحترام المذاهب الإسلامية المعتبرة.
- نشر التسامح والتعايش والتكافل الاجتماعي والتآخي بين أفراد المجتمع.
- إبراز الفكر الإسلامي، وبيان دوره الرائد في رقي الأمة وحضارتها.
إذا تحققت هذه الوسائل نستطيع القول بأن الخطاب الديني هو الوسيلة التي تعتمد عليها الأمة في إيصال المفاهيم الإسلامية للناس، ومعالجة قضاياهم، يتجدد في كل عصر بما يتناسب وطبيعته وواقع المجتمع، مع الحفاظ على ثوابته ومقاصده وأهدافه. مستفيداً من الإنجازات وتطور وسائل الاتصال الحديثة، ومواكباً لكل مستجدات العصر.
من هنا، ندرك أن ثمة تلازماً بين المعنى الحق للدين الحنيف، وبين أسلوب نقله للناس وتبيينه لهم. وكما كان «التبيين» أو «الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة» تتضمن كل أمور الدين من حيث المعنى والمبنى، فالأصل أن تركيباً لغوياً جديداً مثل «الخطاب الديني» يعبر، أيضاً، عن المعاني والأشكال، في الدعوة لدين الله. ويدعو الناس إلى المثل العليا في تصريف شؤون حياتهم، في كل ما هو ضروري للنمو والتقدم الحضاري.
وتفيد المراجعة العلمية المتخصصة أن اشتقاق هذا التعبير جاء من دراسات الاتصال، باعتبار أن «الخطاب» مصطلح اتصالي شائع لدى علماء الاتصال ولدى المشتغلين بصناعة الإعلام في العصر الحديث. وبالتالي لا ضير من استخدام هذا المصطلح للدلالة على نوع معين، أو صنف خاص من أنماط الاتصال الإنساني، حيث يستخدم مصطلح «الخطاب» مع جل التخصصات مثل «الخطاب السياسي» و»الخطاب الثقافي» وغيرهما.
وإذا أدركنا هذه الحقائق المهمة، اتضح لنا الدور الكبير الذي يقوم به «الخطاب الديني» في دعم عمليات التنمية في المجتمعات الإسلامية، بل وفي جميع المجتمعات الإنسانية باعتبار أن رسالة الإسلام للناس كافة. ويمكن النظر لأهمية «الخطاب الديني» في العملية التنموية من عدة مجالات، من أهما:
أولاً: أن «الخطاب الديني» هو أساس مجمل «الخطابات» التي يمكن أن يعنى بها المسلمون لتحقيق تنمية متوازنة في أبعادها الأخروية والدنيوية، وفق شرع الله الحكيم. فالقصور في مخرجات «الخطاب الديني» يقود إلى جهل الناس بأمور دينهم.
ثانياً: أن العناية بال»الخطاب الديني» وتعهده بالتطوير، والتأكد من مناسبته لأحوال العباد والبلاد، حيناً بعد حين، من أصل التشريع الحكيم، الذي أكد على توافر «الحكمة» و»الموعظة الحسنة» و»المجادلة بالتي هي أحسن» ولا شك أن مجمل هذه الأمور متغيرة ومختلفة بحسب الأزمنة، والأماكن، وأحوال الناس. إذ من الحكمة أن يراعي «الخطاب الديني» جميع خصائص المجتمع الراهن ويتعامل وفقاً لها.
ثالثاً: لا جدل في أن الدين الحنيف صالح لكل زمان ومكان، وبالتالي، فإن من مقتضيات هذه الحقيقة أن يُعنى المسلمون بتعهد «الخطاب الديني» بما يحقق الأهداف الكلية للمجتمع المسلم في كل زمان ومكان، بحسب ما يجد ويُحدث، «تبييناً» للناس أمور دينهم وفق ما يمكنهم به فهمه وإدراكه.
وأخيراً، بقي أن أنبه إلى أمر مهم جداً، وهو أنه في معرض الحديث عن أهمية «الخطاب الديني» في عملية التنمية الشاملة، ودوره الرئيس في بيان الحق للناس، فقد يأتي من يجرد «الخطاب الديني» من محتواه الشرعي الرصين. وتأتي مثل هذه الأطروحات المظللة بعدة دعاوى أو مسميات، ازدهرت في فترة سابقة تحت مسمى «تجديد الخطاب الديني» حيث انبرى للحديث عن «تجديد» الخطاب نفر ممن ليس لهم نصيب في العلم الشرعي. وفي ذلك خطورة كبيرة، من أن تصاغ مفاهيم «الخطاب الديني» دون تبصر بأحكام الدين الحنيف. فالذي أجده لازماً، ونحن نتحدث عن دور «الخطاب الديني» في عملية التنمية، هو أن «الخطاب الديني» التنموي يجب أن يكون منضبطاً بشرع الله تعالى، وملتزماً بأحكامه وشرائعه شكلاً ومضموناً، وأن يكون من يتصدى لصياغة «الخطاب الديني» التنموي ممن جمعوا بين العلم الشرعي وعلوم الاتصال الإنساني المعاصر.
الأستاذ المشارك في المعهد العالي للقضاء
dr-alhomoud@hotmail.com