مرت سنوات عمري سريعاً وبهدوء فقد عشت ولله الحمد والمنة كما عاش الكثيرون غيري وسط أسرة حنونة عطوفة يظللها دفء الحياة في كنف الوالدين رحمهما الله تعالى وظل إخوة وأخوات لا نشكو -بفضل الله ورحمته- من شيء ينغص علينا حياتنا الهادئة. وكنت أترقب بفارغ الصبر يوم تخرجي من مدرسة اليمامة الثانوية الشهيرة في مدينة الرياض العامرة لكي أحقق طموحي بالحصول على بعثة دراسية ورؤية عواصم جديدة ومعايشة حياة جديدة، وكان لي ما أردت ومررت ببعض البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية طلباً للعلم، وبعد لأي وكفاح وصبر طويل نلت الشهادة الجامعية من الولايات المتحدة الأمريكية وكنت قبلها قد درست اللغة الفرنسية متنقلاً بين ذلك البلد الخلاب والهادىء سويسرا أعجوبة خلق الخالق ومقدرته في صنع جمال لبعض البلدان يأخذ بالألباب، وبين فرنسا الاستعمارية آنذاك وغير الودودة بالنسبة للأجانب ولا سيما العرب والمسلمين حيث كانت لتوها خارجة ذليلة منكسرة من حقبة استعمارية طويلة للجزائر بلد المليون شهيد والتي أسقتهم من كأس علقم مما انعكس على نفسياتهم تجاه كل ما هو عربي ومسلم.
بعد حصولي على درجة البكالوريوس من إحدى الجامعات الأمريكية غير الشهيرة ولكنها خاصة وقوية المنهج وجميلة المقر، عدت مرة أخرى إلى رحم بلادي وأسرتي وهي التي دائماً وأبداً تبقى في انتظار عودة أبنائها لتظللهم بدفئها وحنانها، مهما طال الزمن وطالت الغربة فلا يبقى لنا إلا حر الجزيرة العربية وسمومها واستنشاق غبارها في غالبية شهور السنة، ومن أدمن استنشاق غبار مدينة الرياض فإنه يذوب في عشق هذه المدينة التي تكبر وتتطور وتتجدد مع إشراق كل صبح جديد وذلك تطبيقاً للمثل القائل من شرب من ماء النيل لابد أن يعود له فهكذا نحن سكان وعشاق مدينة الرياض المحبوبة فنحن عندما نكون في الغربة نذوب شوقاً لغبار وحر الرياض وجفافها.
كان لقطع راتب البعثة حال الحصول على شهادة التخرج وقبل الحصول على عمل أثر سلبي على نفسي وعلى نفوس الكثيرين غيري ممن كان هذا الراتب معيلهم وصائن كرامتهم فمن أين لي أن أصرف على نفسي لشراء الملابس والأكل والشرب والمواصلات وخلافه؟ أعتقد أن هذا خطأ فادح ترتكبه الجهات المسؤولة فيجب أن يبقى هذا الراتب حتى يتم تعيين الخريج بل بعد مضي الشهر الأول في ميدان العمل ليستطيع الشاب العيش بكرامة وهو راتب ضئيل مقارنة بما تصرفه الدولة أيدها الله في مناشط كثيرة وكبيرة، ولا زال الخريجون يعانون من هذه المشكلة ولا سيما مع ندرة الوظائف وتأخر الكثيرين منهم لسنوات وسنوات قبل الحصول على وظيفة.
جاهدت لأصبح معيداً في كلية التجارة بجامعة الملك سعود لأكون قريباً من مصادر العلم والتعلم فقد كنت قبلها أعيش في أجواء جامعية مفعمة بالدرس والتحصيل العلمي وأقضي كثيراً من وقتي في فصول الدراسة وبين أروقة الجامعة وفي ربوع حديقتها ذات البساط الأخضر والأشجار الباسقة والأزهار ذات الروائح العطرة والشذية، فأصبحت كالسمكة التي إذا أخرجت من محيطها المائي ومصدر عيشها وحياتها تموت، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي السفن حيث إنه عندما أتيحت لي الفرصة بمقابلة عميدها آنذاك الدكتور غازي القصيبي شفاه الله وعافاه بعد أن استمتع مع عائلته ببعض من إجازة الصيف خارج المملكة بدأ ينفث علي نثراً وشعراً أشبه بالسحر، (وإن من البيان لسحرا) فخرجت من عنده وأنا قانع من الإياب بعد الذهاب بملفي الأخضر العلاقي أجرجر أذيال الخيبة في ذلك الحر اللاهب متنقلاً عن طريق تكسيات لا تتمتع بالمكيفات ويقودها سائقون بطريقة متعجرفة وتصدح فيها إسطوانات تشدوا بأغان شعبية تشنف الآذان ولا تسر الأسماع! بعدها أتيحت لي الفرصة لأنضم إلى الكادر التعليمي لمراحل عليا بعدما رفضته وأنا أقيم بين ربوعه في تلك الديار وشاءت إرادة الله أن لا تتحقق لي تلك الأمنية لسبب لم أستطع سبر غوره حتى اليوم ولكن إرادة الله نافذة ولا نعلم أين سوف يكون الخير، وغادرت الكلية وعيني على العمل في الصندوق السعودي للتنمية الذي صدر مرسوم ملكي بتأسيسه حيث إنه يتناسب مع ميولي وتخصصي في ميدان العلاقات الدولية، ولكن قدر لي أن أمر عبر بوابة صندوق التنمية الصناعية أولاً لبضعة أشهر ثم تحط رحالي في الصندوق السعودي للتنمية لأقضي بقية سنوات عمري حتى تقاعدي في أحضان هذا الصرح العملاق وبوابة الخير للإخوة الأشقاء وإخواننا في البلدان الإسلامية المختلفة وأصدقاء مملكة الإنسانية لتطالهم اليد الرحبة والمعطاءة بمساهمة جبارة في تطوير وإسعاد شعوب هذه البلدان والرقي بمستوى معيشتها. بعد سنة واحدة أو تزيد من بداية ولوجي ميدان العمل طرق مسامعي فكرة الاقتران بشريكة العمر وكان ما كان. بعد سنة من ذلك أكرمنا الله بباكورة الإنتاج ثم بعد أخرى قدمت أختها وبعد استراحة لسنوات قليلة قدم أخاهم البكر وانضم العقد حتى تكاملوا سبعة فتيان وفتيات، لا أجمل ولا أحلى من عطاء الله وأغداق نعمه علينا! ومرت السنوات سريعة كلمح بالبصر ونحن نرقبهم يكبرون ويتقدمون في ميادين العلم والمعرفة وتخرج منهم من تخرج ومن بقي سوف يلحق بالركب بإذن الله تكللنا عناية الله ورحمته وصدق الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار إلى يوم يبعثون محمد بن عبدالله النبي الأمي أشرف خلق الله وأعظمهم، فقد قال بما معناه أن عمر الإنسان كمن استظل في ظل راحلة أو شجرة وما أسرع أن يزول الظل وها نحن اليوم كأسرة صغيرة وادعة تحتفل بزواج ابننا البكر بعد أن احتفلنا قبل سنوات بزواج شقيقاته وما أشبه الليلة بالبارحة وندعو لهم من القلب بالتوفيق وأن تكلأهم عناية الله وتحفهم رحمته ويعمهم فضله وهذا الدعاء لكل أخ مسلم وأن ينعم عليهم بذرية صالحة تعيش في كنف دين عظيم وبلاد كريمة وعظيمة وليسامحني من يقرأ هذه السطور بإقلاقه وإزعاجه في شأن خاص لا ناقة له فيه ولا جمل إلا من أخذ الدرس والعبرة من أن قطار الحياة يسير بدون توقف ويأخذ معه الأعمار والسعيد من زرع لآخرته في صحته ودنياه وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.