كان أولئك المستفيدون من طغيان (الرأي الواحد) يصفون كل من اختلف معهم، ومع اجتهاداتهم، بأنهم إما علمانيون، أو ليبراليون، أو تغريبيون. التصنيف هو سلاح العاجز، غير القادر على مقارعة الحجة بالحجة، والرأي بالرأي. غير أنّ ارتفاع سقف الحريات مؤخراً في المملكة، وتضاؤل سلطة الرأي الواحد، جعل مشهد الحراك الثقافي في المملكة يتغيّر؛ فلم يِعُد المشهد كما كان يصفه المستفيدون من سطوة الرأي الواحد هو صراع بين (ليبراليين) و(إسلاميين)؛ إنما انتقل الحوار إلى داخل معسكر من يَصفون أنفسهم (بالإسلاميين)؛ فخرجت آراء ما كنا نسمعها في الماضي القريب، وتحوّلت (المماحكات) في الآونة الأخيرة إلى ما بين رموزٍ لا يمكن أن تُصنفَ على أنها خارج البيت الإسلامي؛ فلا يمكن - مثلاً - أن يوصف الشيخ أحمد الغامدي بأنه (علماني)، ولا الشيخ عادل الكلباني بأنه (ليبرالي) أو (تغريبي)، وكذلك الأمر بالنسبة للشيخ أحمد ابن الشيخ عبدالعزيز بن باز. هذا التنوّع في الآراء، وفي الاجتهادات، يرسخ مقولة : (إنّ الاختلاف بين الأئمة رحمة للأمة)؛ وهذا صحيح على المستوى التاريخي؛ فلولا الاختلاف وقبوله من حيث المبدأ، وتعدد الاجتهادات، لما تحققت للشريعة الغراء كل هذه (المرونة) وأبقتها في النتيجة صالحة لكل زمان ومكان.
المشهد الثقافي في المملكة هو الآن في منتهى الصحة ، ويُثبت في الوقت نفسه أنّ (الحوار) والانفتاح هو الحل، وأنّ غيابه، وغياب الرأي والرأي الآخر، هو (الخطأ) الذي ارتكبناه منذ (خروج) جهيمان وحتى (خروج) ابن لادن مروراً بالفترة الصحوية المريرة التي كادت أن تُدمر البنية التنموية في البلاد، وتجعل النموذج (الطالباني) هو البديل؛ دع (آلية) الحوار تعمل، ولا تفرض رأياً واحداً، وستجني في نهاية المطاف ما يتواءم مع شروط الحياة؛ فلن يبقى في النتيجة إلا ما هو قادر على التعايش مع الظروف والمستجدات، ومواكبة متطلّبات الإنسان، والتماهي مع ثقافته المتغيرة دائماً وأبداً.
وعندما ترى هذه الغضب العارم وردة الفعل العنيفة التي أبداها التيار المتشدد، وقاطفو ثمار التشدد من (الحركيين)، تجاه اختيارات بعض طلبة العلم الشرعي ممن خرجوا على (الرأي الواحد) في قضايا فرعية، تتأكد من أنّ (الغاضبين) يدافعون عن سلطتهم، وقوّتهم، ونفوذهم، وليس عن ثوابت ومبادئ وقيم كما يدعون. فالاختلاط - مثلاً - لا يرى أغلبية علماء المسلمين (المعاصرين) في كل أرجاء الدنيا فيه ما يستدعي المنع طالماً أنه لم بُفض إلى محرم، ومتى ما أفضى إلى محرم فحرمته لا يختلف عليها أحد. والغناء قضية خلافية تقف كل النصوص التي يوردها المحرمون عاجزة عن أن توصلها إلى مستوى الحرمة القطعية؛ فضلاً عن أنّ هناك من علمائنا من أباح (المعازف) في مناسبات معيّنة، ونصوص التحريم التي يتكئ عليها المحرمون لا تفرّق بين مناسبة ومناسبة، فتحرّمها هنا وتبيحها هناك؛ ومثل هذه الاختلافات في وجهات النظر كان يجب أن تجعل في الأمر سعة، وليس العكس، فلماذا كل هذا الغضب إذاً؟
كل ما أريد أن أقوله هنا إنّ (التصنيف)، وإظهار الآخر (المخالف) على أنه خارجٌ السياق ، أو أنه متمرد على الثوابت، حجة أصبحت واهية؛ بعد أن ألغاها عملياً طلبة علم (شرعي)، تبنّوا ما كان يتبنّاه من كانوا يُوصفون في السابق بأنهم (علمانيون) فَجَرة، هدفهم، وغاية ما يسعون إليه (التغريب) وهدم البيت على من فيه. وكنت على ثقة منذ البداية أنّ هذا (الانفتاح) الذي أفرزه الحراك الثقافي في هذا العهد الزاهر، سيكون المآل الذي سينتهي إليه الوضع حتماً عاجلاً أم آجلاً؛ فلن يصح في النهاية إلا الصحيح؛ وهذا ما نعايش إرهاصاته الآن.
إلى اللقاء.