شهد العالم في السنوات الماضية طفرة مالية عظمى كان لها الأثر الكبير في تضخم رأس المال العالمي وتنوع أساليب الدخل والمتاجرة.
وقد تبنت البنوك العالمية زمام هذه الطفرة المالية، فكان لها نصيب الأسد في التعاملات المالية ذات الطابع التقني الحديث، تبعاً لاختلاف وتنوع تلك التعاملات ومواردها المالية؛ كالأسهم والسندات والودائع المصرفية والقروض وصناديق الاستثمار ونظام الصكوك في الأسواق المالية، وغير ذلك مما هو متداول في السوق المالي العالمي.
وقد منيت معظم دول العالم مؤخراً بأزمة اقتصادية مفاجئة كانت سبباً في التحول السريع للمستوى الاقتصادي لدى تلك الدول، كان له الأثر البالغ على البنية الاقتصادية.
وقد شملت الأزمة معظم الموارد المالية الكبرى؛ كالبترول، وأسعار العملات، والبورصات، والعقارات، والقطاع المصرفي بوجه عام، مما كان لها انعكاسات سلبية على المستوى المعيشي، بسبب ارتفاع الأسعار والكساد وقلة الموارد.
وتختلف آثار أزمة المال العالمية من بلد لآخر، مع التشابه الكبير في طرق التعامل مع هذه الأزمة لدى معظم الدول بنظام مصرفي وثيق.
وعلى نطاق أوسع فإن البنوك الدولية ترى أن استعادة الثقة بين مؤسسات المال العالمية هو التحدي الأكبر الذي سيواجه القطاع المصرفي في العالم.
وفي المقابل فإن بعض الخبراء الاقتصاديين يؤكدون أن تأثير هذه الأزمة سيكون ضعيفاً على القطاعين المالي والمصرفي في بعض البلاد العربية بسبب ضعف قنوات الاتصال بين الاقتصاد النقدي والاقتصاد العالمي من جهة وحداثة المصارف الخاصة وعدم وجود أسواق مالية في تلك الدول من جهة أخرى.
وعلى كلا التقديرين فإن الأزمة المالية العالمية الحالية تعرقل سير الحياة الاقتصادية وتحد من تقدمها وتقلل من إمكاناتها.
ومن الواجب السؤال: كيف نحصّن اقتصادنا من تلك العلل؟
والواقع أن منظومة الاقتصادي الإسلامي بصفة عامة، ونظام التمويل الإسلامي كأحد مكونات المنظومة كافٍ لإعطائنا مناعة طبيعية، وهذا يحتاج إلى تفصيل. ولكي نختصر، نركز على نظام التمويل الإسلامي وكيف يحقق المناعة الطبيعية لاقتصادنا من تلك الأمراض الدخيلة.
فالنظام الاقتصادي الإسلامي يجعلنا غير محتاجين إلى الاستمرار في استيراد نظام اقتصادي معتل، بل وآيل للسقوط. وذلك لما يتميز به الاقتصاد الإسلامي من مزايا لا توجد في غيره، منها:
أولاً: النظام الاقتصادي الإسلامي يعطي مساحة كبيرة للحرية الاقتصادية في كافة القطاعات، ولكنه يمنع الاحتكار ولا يتجاهل العدالة الاجتماعية.
ثانياً: يعتمد نظام التمويل الإسلامي على أسس سلعية واستثمارية في توزيع الموارد المالية.
ثالثاً: إن التجارة في المخاطرة، أو ما يسميه الفقهاء عقود الغرر، محرمة صراحة.
رابعاً: إن بيع الديون لا يجوز إلا بقيمتها الاسمية.
وقد توصل كثير من الباحثين في المال والاقتصاد إلى ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حد لهذه الأزمة التي هزت أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإضراب في المضاربات الوهمية غير المشروعة.
كما دعت كثير من المنظمات إلى إنقاذ الوضع المالي المتأزم والبحث عن خيارات بديلة تصب في صالح المال والاقتصاد وفي مقدمتها تطبيق الشريعة الإسلامية برغم تعارضها مع المبادئ والتقاليد الغربية ومعتقداتها الدينية.
فالإسلام حين حرم الربا وجعله من السبع الموبقات- أي المهلكات- لم يقتصر على الجزاء الدنيوي لأولئك الرأسماليين وانهيار اقتصادهم، بل شن الحرب عليهم بما هو أعم من ذلك وهو ما يشهده العالم اليوم وما يعانيه نتيجة المعاملات المحرمة حتى ثبت كذب مقولتهم : ( إنه لا اقتصاد إلا ببنوك ولا بنوك إلا بفوائد )، ومتى كانت السندات الربوية والقمار والاحتكار والغش والتدليس وأكل المال بالباطل متى كان ذلك حلاً لتفادي المخاطر الاستثمارية بل ذلك معول هدم وسلاح فتاك للقضاء على الاقتصاد العالمي.
لقد أدرك عقلاء الغرب أنفسهم مؤخراً أن المصارف الإسلامية هي البديل المناسب للبنوك الغربية، فما إن أعلنت البورصات العالمية انهيارها وظهرت أزمة القروض المالية حتى بدأ النظام المصرفي التقليدي يتصدع ويبحث عن الحلول الجذرية لهذه الأزمة.
إن المتأمل في شريعة الإسلام الصالحة لكل زمان ومكان يعلم يقيناً أنها هي النظام الأمثل للبشرية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فهي كما قال ابن القيم - رحمه الله - (إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد).
إن قواعد الشريعة وأحكامها هي صمام الأمان للاقتصاد العالمي، وهي نظام كامل مستقل يحقق مقاصد الشريعة والعدل في التعاملات المالية.
ويظهر ذلك جلياً في: إن النظام الاقتصادي الإسلامي يعطي الحرية الاقتصادية في كافة القطاعات ويمنع الاحتكار دفعاً للضرر، ويمنع التعاملات التي تؤدي إلى الغرر والجهالة، فلا عقود وهمية ولا بيوع صورية، ولا سندات مجهولة العوائد، ولا قروض بفوائد.
كما أن الإسلام يقر التوازن المالي تحقيقاً للعدالة الاجتماعية، ومن أجل ذلك شرعت الزكاة من أجل إعانة الفقير المحتاج حتى لا يلجأ إلى استغلال المستثمرين والتعرض للديون.
كما أن المتاجرة في الإسلام تخضع للكسب الحلال {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}. والبنوك الإسلامية تقدم نظام تمويل المرابحة وهو البيع بثمن آجل مع تحريم بيع الدين بالدين.
فالتمويل الإسلامي لا يقوم بتأسيس المتاجرة في الديون على نسق سوق السندات المعمول به حالياً في البنوك الربوية، ولهذا يكون الاقتصاد الإسلامي قد قطع الطريق أمام الراغبين في استغلال حاجة الناس وأكل أموالهم بالباطل.
ومتى أعسر المدين عند حلول الأجل فإن النظام الإسلامي لا يضاعف عليه الدين بسبب إعساره، وإنما يبحث عن من يعينه على سداد دينه من الراغبين في الخير، أو ينتظر حتى ميسرته كما قال تعالى {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.
ومن هنا يمكن القول بأنه متى أرادت أي دولة غربية أو عربية أن تحصن نفسها ضد الأزمات المالية فلتحول نظامها الاقتصادي إلى النظام الإسلامي متى توفرت الإرادة الصادقة، كما يجب على كل دولة أن تزيل جميع العوائق أمام حركة السلع وعوامل الإنتاج، فالاقتصاد الإسلامي أكثر كفاءة واستقرار من أي نظام آخر يبنى اقتصاده على الربا والتمويل التقليدي، وهذا يتطلب من أرباب البنوك حسن الإدارة والإلتزام الشرعي في التعامل المصرفي.
وتعد الصكوك الإسلامية إحدى أهم الأدوات المالية التي يستخدمها القطاع المالي الإسلامي، فهي تمول المشروعات المختلفة ومرغوبة من قبل العملاء بما فيهم غير المسلمين.
والجدير بالذكر أن العديد من الأسواق غير الإسلامية تبحث الآن طرح السندات الإسلامية لدعم أسواقها المالية وتلبية احتياجاتها.
ولذلك فإن البنوك الإسلامية لا يمكن أن يقع عليها تأثير مباشر من الأزمة المالية العالمية. ولكنها برغم ذلك تعيش في عالم يطغى فيه التمويل الربوي على غيره، ولذلك فلا مفر من أن تتأثر بالعوامل غير المباشرة. واقتصار التأثر بالعوامل غير المباشرة يعنى أن البنوك الإسلامية سيكون تأثرها أقل، وقدرتها على الصمود أكثر من البنوك التقليدية.
وخلاصة القول : إن الخروج من الأزمة المالية العالمية وفقاً لضوابط ومعايير الاقتصاد الإسلامى والمستنبطة من أحكام وقواعد الشريعة الإسلامية يمكن إيجازه فيما يلى :
أولاً: منع كافة صور المضاربات المحرمة ومنها : المقامرات (الميسر) والتجارة بالديون، وبالمشتقات المالية الوهمية التي سببت أضراراً للناس جميعاً على مستوى العالم. والاعتياض عنها بصور التعامل الإسلامي وقواعده الشرعية.
ثانياً: اعتماد نظم وصيغ الاستثمار والتمويل الإسلامي القائمة على المشاركة والبيع والمعاملات الفعلية التي تُعِيد الأمن والاستقرار للاقتصاد المحلي والعالمي على حد سواء.
ثالثاً: إيجاد بديل لهيمنة العملة الواحدة التي تؤدي إلى الإضرار بكافة العملات لأن هذه الهيمنة تعتبر ضرباً من ضروب الاحتكار المنهي عنه شرعاً، فلابد من إحياء نظام الدينار الإسلامي.
رابعاً: تحقيق المصلحة العامة الدولية ولا سيما الدول النامية الفقيرة. وذلك بتوفير سبل انتعشها اقتصاديا، ووضعها في الجدولة العالمية للتنمية ،وتعزيز مواردها المالية، وتحسين وضع عملتها المحلية.
خامساً: الدعم المادي والمعنوي للفقراء والمحتاجين ،وإعانتهم عل تخطي هذه الأزمة، ومعاقبة الفئات الأخرى المتسببة.
سادساً: تشجيع الأغنياء وحثهم على مساعدة المحتاجين، انطلاقا من مبدأ الزكاة والصدقة التي أمر بها الإسلام. حتى لا يموت الناس جوعاً ومرضاً بسبب دعاة الاستغلال والفساد.
سابعاً: تداول الأموال في البنوك والمصارف وفق قواعد الشريعة، ووضع معايير ملزمة لهذا التداول، ومعاقبة من يحيد عن ذلك بعقوبات دولية حتى يتم تداول المال والنقد بالحق والعدل بما يحقق الخير للبشرية والحد من شرور الرأسمالية المالية.
ثامناً: إنشاء صندوق النقد العربي والإسلامي لدعم الدول العربية والإسلامية الفقيرة والنامية، وتكون أموال العرب وكافة المسلمين تحت رعايته.
تاسعاً: تقديم نموذج اقتصادي إسلامي من خلال السوق العربية المشتركة لإنقاذ البشرية من الهلاك. ويكون بديلا عن النظام الوضعي.
***
مراجع البحث
1- الأزمة المالية: آثارها والدروس المستفادة منها.
للدكتور / حسين شحاته / جامعة الأزهر.
2- الأزمة المالية والتمويل الإسلامي.
للدكتور /معبد علي الباري (رئيس الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي).
3- تداعيات الأزمة الاقتصادية وحدودها.
مقال للدكتور/ صياح مغوش/ جريدة الجزيرة السعودية.
4- الأزمة الاقتصادية المالية / علي السالوس.
5- الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة / رمزي زكي.
6- حجم الأزمة المالية وأبعادها / محمد النوري (خبير اقتصادي).
* الأستاذ المشارك في المعهد العالي للقضاء بالرياض