مناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف ذكرى عطرة وروحانية إيمانية غامرة لقلوب ومشاعر جميع المسلمين في أنحاء المعمورة، والاختلاف بين طوائف المسلمين واضح حولها، فمنهم من يحيي ليالي هذه الذكرى ويعمرها بالصلاة على النبي المصطفى ويكملها بالابتهالات والأدعية، ومنهم من يرى أن هذا من البدع التي لا تجوز, ومن يحيون هذه الليالي مختلفون هم أيضا في طرقهم وأساليبهم الدينية، فبعض الفئات والطوائف تحيي عدة ليال بصور من الاحتفالية الدينية المبالغ فيها مما يخرج المناسبة عن الهدف المقصود، ومنهم من يستثمرها في استذكار أيام صدر الإسلام والدعوة المحمدية ومنهج المصطفى (صلى الله عليه وسلم) في الدعوة ونشر مبادئ الإسلام الحنيف، ومدرسته النبوية التي نهل منها الصحابة رضوان الله عليهم وسلك مسلكهم التابعون الأخيار، وتبعا لذلك كانت آراء أئمة المسلمين في الإجازة والمنع فمنهم من يرى أن استعادة ذكرى المولد النبوي على نحو مبسط هادئ قوامه الدروس والعبر من السيرة النبوية المطهرة هو أمر لا بأس به إذا لم يتعد إلى أكثر من ذلك، وهناك من يمنع ويمتنع خشية التمادي في إحياء الذكرى وشمولها محذورات منهي عنها من الاعتقادات الباطلة والمفاهيم الخاطئة التي تقع بها العامة مع توالي السنين وتوارث هذه المراسم جيلا بعد آخر، والواقع المشاهد في بعض الدول الإسلامية يقدم صوراً من هذه وتلك بل إنك تجد في مدينة واحدة أو حي واحد عددا من الاحتفاليات تختلف تماماً في فقراتها وأدعيتها بل والمعتقدات التي تنم عنها، وصادفت بعض الاحتفالات حين زيارتي لبلد عربي ومما لفت الانتباه أن مشاركا في بعض الفقرات كان يقدم أعمالاً يدعي أنها خارقة روحانية مستمدة من أعمال الصالحين وأرواحهم الطاهرة، كانت أقرب للسحر والشعوذة وتدعو للاستغراب من احترافية أداء الحركات (والاستهبال الخرافي)، وحين انصرافنا من الموقع شاهدنا (المدعي) يقف على الرصيف ينتظر سيارة أجره لنقله إلى مكان آخر، فكان فصلاً آخر يمنحنا مزيداً من الضحك، فأين أعماله وحركاته الخارقة قبل دقائق، فكيف يستعين الآن بمن يوصله عبر الشارع ؟! والغريب أن الجمهور المتفرج يحضر بكثافة ويخسر بعض المال مع إيمانه العميق بعدم صدق هؤلاء ممن يستغلون المناسبة لجني الربح المادي دون النظر للعواقب الوخيمة التي يجرونها على أجيال أمة محمد.
ومن البلدان التي تحتفي بالذكرى العطرة الجمهورية التونسية فقد صادف وجودي بها إحدى المرات مناسبة هذه الذكرى ولفت انتباهي وأسرتي أنهم يهتمون بها أكثر من مناسبة العيدين ويحضرون لها أنواعا من الأطعمة والحلوى وأشهرها حلوى تسمى (الزقوقو) خليط من العسل أو الدبس والمكسرات والنكهات العطرية، وهي لذيذة وتختلف جودتها من منزل لآخر، ويقدم كثير من الموظفين طلب إجازة يوم أو يومين لهذه المناسبة، ولم أشاهد في ما مررت به من أمسيات شيئاَ خارجاً عن الابتهالات والأدعية ولكن قد تصاحبها الدفوف أحيانا وتمايل المبتهلين حينا آخر، وهذا ليس في كل موقع كما فهمت من أهل البلد.