يزخر تراثنا العربي الإسلامي ورواياته بأهمية وحرص ولاة الأمر على البطانة الصالحة، وهذا ما حدثنا عنه تراثنا منذ بداية العهد الإسلامي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده الخلفاء الراشدون ومن جاء بعدهم من الخلفاء المسلمين كانوا يحرصون على أن تكون البطانة المحيطة بهم من خيرة الرجال: تقوى، وفكراً، وتحكيماً.. واستمر هذا الحال على عهودنا الإسلامية المتتالية. ولنستمع إلى هذه الرواية عن البطانة الصالحة: اشتكى سيدنا علي بن أبي طالب إلى سيدنا عمر بن الخطاب بأن سيفه المشهور ذا الفقار فُقِد منه وهو موجود عند يهودي، وكلنا يعرف مكانة سيدنا علي في ذلك الوقت، وأنه أحد رجالات البطانة حول سيدنا عمر.
فعقد لهما سيدنا عمر مجلس القضاء، وقال: يا أبا الحسن قف بجانب خصمك اليهودي، فظهر التغير على وجه سيدنا علي، ولكن مجلس القضاء استمر، وحكم سيدنا عمر لليهودي بأخذ السيف لأن سيدنا علي لم يقدم الأدلة الكافية، وبعد الانتهاء تمت المناقشات الآتية: قال سيدنا عمر لسيدنا علي كأني رأيت وجهك تغير عندما قلت لك يا أبا الحسن قف بجانب خصمك اليهودي، فقال له لا والله إنما خفت أن يدخل في نفس خصمي شك من عدالة قضائنا حيث قلت لي يا أبا الحسن وقلت له يا يهودي، هذه واحدة. وتؤكد روايات أخرى أن اليهودي بعد انقضاء مجلس القضاء وأخذه للسيف رجع إلى سيدنا عمر ليؤكد له أن السيف فعلاً لسيدنا علي، وأعلن إسلامه مباشرة وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. تمعن في هذه المواقف والنتائج المبهرة للبطانة الصالحة ولولي الأمر العادل.
وفي أيامنا الحاضرة، ونحن بين يدي خطبة الجمعة أو صلاة التراويح في شهر رمضان المبارك، نجد الأئمة يدعون قائلين: «اللهم ارزقه البطانة الصالحة»، ويقصدون بذلك جلساء ووزراء ولي الأمر الذين يعينوه على القيام بأمر رعاية ومسؤولية الشعب بما يعود عليهم بالمنفعة والمصلحة العامة، واستناداً إلى ذلك الأمر وجدتني أنطلق في حديثي عن البطانة الصالحة مشيراً إلى ما تفضل به ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - حينما وجَّه أمره الكريم إلى الوزراء والمسؤولين بعمل ما في وسعهم لضبط القواعد والمراسيم التي تأخذ بيد المصلحة العامة لما فيه الخير والراحة للمواطنين، ومن هذه وضع ضوابط وقواعد تطبق في تخطيط مدننا على أن تنفذ مشروعاتها في أوقاتها المرسومة لها بدون تأخير.
إن تواصل الأوامر والقرارات والتوجيهات الملكية المستمرة لهي إضافات ترسم لوحة مشرقة لمستقبل زاهر مليء بالازدهار والرقي، وهي بمثابة ناقوس يدق في مواجهة الفساد والمفسدين أياً كانوا، وفي هذا مدعاة لكل من تسوّل له نفسه الارتخاء في عمله أو التهاون أو التملص من مسؤوليته فإن الأمر الملكي الذي صدر لإحالة المتورطين في سيول جدة سيكون ماثلاً أمامه وسيطبق في حقه ما سيطبق في حق غيره من المتسببين.
والفساد عبارة كبرى ومصطلح شامل لكل أعمال التهاون والإفساد في الأرض: قال تعالى {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (205) سورة البقرة.
وعندما اجتاحت بلادنا في الفترة الماضية تقلبات جوية أدت إلى سيول وأمطار غزيرة عززت وزادت من كميات المياه المتدفقة في الأودية والشعاب، غير أن المدن وخاصة مدينة الرياض كادت أن يصيبها ويحدث لها مثل ما حدث لمدينة جدة لولا لطف الله سبحانه وتعالى، حيث كانت كميات المطر أقل مما وقع في جدة، ورغم الجهود المبذولة من إمارة منطقة الرياض وأمانة منطقة الرياض إلا أن هناك خللاً واضحاً ظهر من خلال متابعات المنفذين والمشرفين على تصريف السيول، وهذا ضرب من التهاون المؤدي إلى الفساد يوجب محاسبة دقيقة للمتسببين فيه، والعجيب أنني لأول مرة أشاهد ذلك في حياتي أن كثيرًا من المواطنين الذين كانوا بالأمس يؤدون صلاة الاستغاثة أرى على محياهم كثيراً من التجهم والخوف حين نزول المطر، مع أن المطر رحمة، كما قال تعالى {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} (10-11) سورة نوح.
وما بين المطر ودخول فصل الصيف فواصل لا تكاد تعد، فما إن خفت شدة المطر إلا وقل تدفق الماء في بعض الأحياء مما احتاج الناس فيه إلى اللجوء لملء خزاناتهم وجلب مياه البلدية لتبل جفاف عطشهم، هذه هي المفارقات التي نتمنى أن تكون حلولها دائمة وعاجلة بإذن الله. إن المواطن شريك أساسي في إحداث وظهور مثل هذه الأمور؛ فعندما نقوم بالإسراف في استخدام المياه أو تسريبها خارج المنزل فلا شك أننا شركاء في الإفساد وعدم المحافظة على ثروات بلادنا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «اقتصد ولو كنت على نهر جارٍ».
وأشير هنا إلى ما تفضل به صاحب السمو الملكي الأمير متعب بن عبدالله نائب رئيس الحرس الوطني للشؤون التنفيذية أثناء حديثه في حفل المعايدة برئاسة الحرس الوطني حين قال: إن البطانة الصالحة هي مجموع المواطنين وليست خاصة بجلساء ووزراء ولي الأمر.
نعم كل المواطنين بطانة، فإما أن تكون تلك البطانة صالحة ترعى الحقوق وتسهر وتحافظ على الممتلكات العامة داخل الدوائر الحكومية أو في المرافق العامة وتكتم أسرار العمل، أو تكون على عكس ذلك لا سمح الله.
ولسنا بحاجة لنؤكد أن الادخار والترشيد في استخدام المياه والكهرباء والإبقاء على ثروات البلاد أياً كانت ضرب من ضروب أعمال البطانة الصالحة.
وأيضاً يمكننا الإضافة إلى أبواب البطانة الصالحة تعقب المفسدين والعمل على فضح أسرارهم والإبلاغ عنهم أياً كان نوع إفسادهم سواء كانوا دعاة سوء وترويع للآمنين، أو ممن يدلسون في أعمالهم ويتهاونون في تنفيذ المشاريع المناطة بهم، وقس على ذلك الكثير.
من هذا نستطيع أن نخلص إلى أن حدود البطانة الصالحة أكبر وأوسع من أن نحيط بها في مقالة أو وجهة نظر.
وبالله التوفيق.
المدير العام للمهرجان الوطني للتراث والثقافة
email : alromis@yahoo.com