عندما كنت صغيراً كانت أمي - شفاها الله - كلما رأتني أخذتني في حضنها وابتهلت قائلة: قل آمين، اجعل ما يفكك حزايمي غيرك! لم أفهم آنذاك مضمون هذه الدعوة ولا معناها، حتى كبرت، ودفنت أبي يرحمه الله قبل خمس سنوات، وأختي قبل ثلاث سنوات، وفككت حزائمهما في قبريهما. بالأمس فقدت أختي الصغرى، ذات التسعة عشر ربيعاً، وآخر عنقود أسرة أبي الكبيرة، فعادت إلى ذاكرتي دعوة أمي، لكن صغيرتي تلك لم تكن مجرّد أخت، بل كانت ابنتي وأنيستي ورائحة أبي، كانت ابتسامتها ودهشتها البريئة لحظات المزاح هي ما تبقى، روحها النقيّة ككائن لم يستطع أن يغادر طفولته، فطفولة الأشياء هي ما يبقى، أقسم أنني رأيت مشروع ابتسامة على جانبي فمها وجسدها الطاهر مسجى في مغسلة الأموات بجامع الونيان، وقد تذكّرت قصة قصيرة كتبتها قبل خمسة عشر عاماً، يدور مضمونها حول سؤال طفل لأمه: الميت يضحك؟!
هل كانت تبتسم لنا في وداعها الأخير؟ أم كانت ترى ما لا نراه فتبتسم؟ هل يشعر الميت بمن حوله؟ أيحزن للبكاء ويضيق به؟
غاسلة الموتى أم محمد كانت مأخوذة بملامحها وهي تردد للنساء الحزينات حولها: حورية ما شاء الله!
غرفتك لم تزل كما كانت، دفتر مذكراتك الصغير وأحلامك الكبيرة، جهاز كمبيوترك المحمول بلونه الوردي، جهاز هاتفك الجوال لم يزل يومض منتظراً صوتك الغائب، اللوحة المعلّقة على جدران غرفتك الوردية، المنزل الجديد الذي لم يحتضنك أكثر من أربعة أشهر، صوتك لم يزل يسير على السجاد، ناعماً وأميراً، هدوؤك الملائكي ونظرتك الحالمة، حنينك الطويل إلى منزل أبي، حلم الطفل فيك قبل يومين فقط من رحيلك، وأنتِ تطيرين بجناحين مكتملين، إلى أين طرتِ حبيبتي أماني؟ أم كنتِ تبحثين عن أبي؟ أتفتشين عنه بعد غياب السنوات الخمس؟ هل ابتسامتك غير المرئية بجسدك المسجى كانت له؟ هل ترينه الآن؟ تحسين به؟ تتحادثين معه وتلقين برأسك الصغير على صدره؟
كم كان موجعاً - فلذة قلبي - أن أجد في خزانة غرفتك مقالي الرثائي الذي كتبته عن أبي منذ سنوات، هل كان زادك اليومي يا صغيرتي؟
من سيقرأ مقالي هذا عنك؟ هل ستشعرين به؟ أتصلك الكلمات وجسدك يرقد الآن في مقبرة الموطأ؟ هل سترعش نبتة صغيرة فوق قبرك، وتخبرني بأن كلماتي وصلت إليك؟ وأنك تحبينني كما أحببتك؟
كيف سأتخفف من تذكرك المضني والموجع؟ هل سأبقى كما فعلت مع أختي لطيفة، أرى طيف عباءتها خلف زجاج باب منزلي، وكأنما تهمُّ بدق جرس الباب، فأفزع مجتازاً الحوش الصغير، لأفتح الباب، ولا أحد؟ كيف سأوقف دمعتي حتى الآن كلما شممت رائحة النعناع التي تستدعي طيفها وهي تبتسم أمامي؟
ستبقين أماني، أو أمونتي كما أحب مناغاتك، تجولين معي في الأنحاء، سأصحبك معي أينما اتجهت، ولن أكفّ عن الابتسامة وأنا وحدي، أو في حضرة الآخرين، لأنني أراك الآن تبتسمين!
غفر الله لك، وأسكنك الفردوس الأعلى.