يبدو أن نتائج البحث والتقصي التي قامت بها بعض اللجان المختصة للوقوف على أسباب حدوث «أزمة الديزل»، التي ضربت السوق في موسمين متتالين، كشفت عن علاقة ما، بين تهريب الديزل وشح المعروض في السوق المحلية، في فترات محددة، وهو ما أشرت إليه في مقالتين نُشرتا بُعيد ظهور الأزمة. قد لا يكون تهريب الديزل السبب الوحيد لنشوب الأزمة، إلا أنه يبقى سببا ضمن أسباب أخرى لا تقل أهمية عنه. الوقوف على أصل المشكلة يُساعد في إيجاد الحلول الناجعة لها، إلا أن بعض الأزمات تحتاج إلى إحاطة شاملة تحول دون توقف الباحثين فيها عند النقاط الضعيفة البارزة، وترك النقاط الضخمة المتوارية عن الأنظار!.
تهريب الديزل عبر الموانئ قد يُتهم فيه بعض المتطفلين على حرفيي الصيد البحري، ممن دخلوا القطاع لأهداف مشبوهة، إلا أن التعميم في هذا الجانب قد يضُر بقطاع الصيد، ولا يُحقق هدف القضاء على التهريب الذي يبدو أن خلفه عصابات أكثر تنظيما وقوة من حرفيي الصيد البحري! هذا من جانب، ومن جانب آخر اكتشاف حالات شاذة في أحد الموانئ، التي لا تتمتع برقابة مشددة على إمدادات الديزل وحركة السفن خارج الميناء، يُفترض إلا يترك أثره السلبي على باقي الموانئ المنضبطة التي لم تسجل فيها مخالفات التهريب.
المعلومات الصحفية المنشورة تُشير إلى تورط شركات وأفراد في عمليات تهريب الديزل عبر المنافذ البحرية، مرورا بالجمارك، وتورط شاحنات سعودية وأجنبية في التهريب عبر الحدود مرورا بالمراكز السعودية، وتورط شركات تصنيع تقوم بتصدير منتج الديزل على أنه مواد سائلة مصنعة محليا، وشركات أخرى تقوم بتهريب الديزل على أنه زيوت مستخدمة يتم تصديرها لغرض إعادة التصنيع، وهو ما يجعل قطاع الصيد الحلقة الأضعف بين الحلقات الأكثر تأثيرا.
تهريب الديزل عبر الحدود أو من خلال البحر ليس بالأمر الجديد، وهو ما دفع وزارتي البترول والمالية إلى وضع ضوابط لبيع الديزل على الصيادين، اعتمدوا فيها على أطوال قوارب الصيد بحيث يباع الديزل على القوارب التي تقل أطوالها عن 16 مترا بالسعر المحلي، في الوقت الذي تلتزم فيه سفن الصيد التي تزيد على 16 مترا بشراء الديزل بالسعر الدولي. لم يتم اختيار أطوال السفن المستثناة جزافا، بل كانت مبنية على دراسة حصرت معظم سفن الصيد المتوافرة قبل أكثر من 18 عاما بشريحة 16 مترا؛ ما يعني أن القرار لم يكن يستهدف الصيادين أنفسهم بل سفن المهربين المستترة بغطاء الصيد. عدم استفادة سفن الصيد الأكبر من 16 مترا من استثناء الشراء بالسعر المحلي أُقر أيضا تحسبا لمطالبة السفن الأكبر حجما بالمعاملة بالمثل؛ ما قد يفرغ القرار من أهدافه الأساسية.
اليوم باتت أطوال غالبية سفن الصيد المُصرح لها رسميا، والحاصلة على الدعم الحكومي، تزيد على 16 مترا ولا تتجاوز العشرين؛ ما حرمهم من الاستفادة من الاستثناء الذي وُضِع في الأساس لهم. قرار عدم السماح ببيع الديزل بالسعر المحلي على القوارب التي تتجاوز أطوالها 16 مترا عاد للواجهة من جديد، وهو ما يهدد قطاع الصيد البحري وينذر بحدوث أزمات مختلفة تزيد في حجمها وأضرارها الضرر الذي يحدثه ثُلة من المخالفين.
التحوط القديم الذي بُني على أطوال السفن قد يُلغيه ربط الاستثناء برخصة ملكية السفينة، وطولها أيضا، فيكون بيع الديزل بالسعر المحلي متاحا لسفن الصيد المملوكة لحرفيين فقط، لا مستثمرين، بشرط ألا يزيد أطوالها على 20 مترا. السفن تعتمد في الأساس على حجم استهلاك الديزل؛ حيث يمكن للسفينة ذات الستة عشر مترا أن تستهلك كمية الديزل نفسها التي تستهلكها السفينة ذات العشرين مترا، بحسب طريقة الصيد المستخدمة، ومدة إشغال المحرك؛ ما يجعل الاعتماد على أطوال السفن غير دقيق، ولا يحقق الهدف، ويضر بالصيادين.
قطاع الصيد البحري يعتمد في الأساس على الدعم الحكومي؛ فقروض صندوق التنمية الزراعي هي المحرك الرئيس لهذا القطاع؛ لذا لا يمكن الجمع بين الدعم ورفع سعر الديزل بأكثر من 800 في المائة في كفة واحدة! مهما كانت الأسباب؛ فالحلول البديلة متاحة للجميع. أسعار الديزل المقترحة ستؤثر سلبا على القطاع بأكمله، وستتسبب في توقف قوارب الصيد وخروج بعضها من النشاط؛ ما قد يؤثر في الأمن الغذائي، وارتفاع أسعار الأسماك على المستهلكين، وتحويل الأسواق المحلية إلى أسواق متخصصة في بيع منتجات الدول المجاورة، بعد تحولها إلى الاستيراد الكلي، وهو أمر لا يمكن القبول به. إضافة إلى ذلك فمعظم سفن الصيد الحالية مرهونة لصندوق التنمية الزراعي، ويتحمل ملاكها أقساطًا سنوية يتم توفيرها من عمليات الصيد، وفي حال توقف السفن عن الإبحار، أو تعرضهم لخسائر فادحة، وهو المتوقع، فستتوقف الأقساط لأسباب مالية صرفة. رفع سعر الديزل على سفن الصيد يعني تأثر عامة المواطنين بالقرار من جانبين مختلفين، الأول: ملاك السفن، الحرفيون، وأسرهم بسبب توقف مصدر رزقهم الوحيد بعد الله، والثاني: المستهلكون والأسواق المحلية التي ستتأثر بنضوب المعروض السمكي، وارتفاع الأسعار بشكل حاد. القرار سيسهم في إحداث ضرر كبير بقطاع الصيد، وربما يحمل الدولة تعويضات لملاك السفن المتضررة، ويفقدها حقوقها المالية المتمثلة في قروض صندوق التنمية الزراعي، في الوقت الذي لن يحد فيه القرار من عمليات التهريب التي يُعتقد أن الحجم الأكبر منها يتم من خلال وسائل وطرق أخرى خارج محيط الصيد.
ليس من العدل أن يحصل الصياد السعودي على الديزل بالسعر الدولي في وقت يحصل عليه ملاك الشاحنات الأجنبية، الداخلة والخارجة من الحدود، بالسعر المحلي! حجم المباع من الديزل للشاحنات الأجنبية في ثلاثة أشهر قد يتجاوز ما تستهلكه سفن الصيد بأنواعها في عام! قرار رفع سعر الديزل لن يحقق العدالة بين المزارعين والصيادين من جهة، وبين الصيادين أنفسهم على أساس تقسيمهم إلى شريحتين إحداهما مستفيدة والأخرى متضررة، وجميعهم منضوون تحت مظلة وزارة الزراعة.
أعتقد أن وزارتي المالية والبترول لن تستفيدا من قرار رفع سعر الديزل على قطاع الصيد، ولن تحدا بِهِ من عملية التهريب التي أعتقد أنها تحدث بكثرة خارج قطاع الصيد البحري، وستتسببان في مشاكل كثيرة للصيادين، وللأسواق المحلية والمستهلكين؛ ما يجعلنا نطالب بمراجعة القرار، واستثناء سفن الصيد المملوكة لحرفيين من تبعاته، وضم سفن الصيد الأقل من 20 مترا للمستفيدين من الاستثناء الذي نَص على بيعهم الديزل بالسعر المحلي، والذي وضعه ولي الأمر تحقيقا للمصلحة العامة.
****
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM