ما الذي يدفع برجل غادر محطة الشباب قبل حين من الدهر إلى الجلوس أمام شاشة التلفاز ليتابع بشغف ولهف مباريات كأس العالم في كرة القدم؟ بالتأكيد ليس حب الرياضة - وهو الذي لا يمارسها ولم يمارسها من قبل.
وليس ذلك أيضاً من قبيل عودة الشيخ إلى صباه، فإن المشيب لم يفعل شيئاً يوجب الحنين إلى الصبا أو تمنى عودة الشباب. كذلك فإني أقطع أنه ليس الملل، لأن المباريات في الواقع تكرر نفسها في حركاتها وأبطالها، والتكرار ليس ممحاة للملل بل هو مدعاة له. مهما كان السبب، فلماذا نستكثر على الشيخ أن يحدق في الشاشة مستمتعاً بمشاهدة اللعب، بينما هو لم يدفع شيئاً مقابل ذلك سوى ثمن بطاقة التشفير وقليل من الوقت. فما بال أولئك الذين يقطعون آلاف الأميال وينفقون آلاف الريالات (أو غيرها من العملات) ليتبوأوا مقاعد في الملاعب للفرجة على المباريات؟ يذكرني ذلك بما كان يفعله بعض الإخوان عندنا أو حوالينا قبل أربعين أو خمسين سنة، حينما كانوا يشدون الرحال إلى القاهرة لحضور حفلة الخميس الغنائية التي كانت تقيمها سيدة الطرب أم كلثوم كل شهر، بينما كان يمكنهم أن يطربوا لشدوها بأحلى الأغاني وهم جالسون على أرائكهم وبين أهليهم. هل الدافع في كلا الحالين واحد؟ أجل. إنه يبدو كذلك. فإن هؤلاء وأولئك ينشدون المتعة. والمتعة حاصلة سواء كنت على كرسيك أو كنت معايشاً للحدث الممتع، غير أن المعايشة ترضي الذات للشعور بأهمية الحدث وأن يكون المرء جزءاً منه فيحصل على ذروة المتعة. كما أن المعايشة تضيف شيئاً آخر إلى المتعة. إنه الاندماج ليس مع المغنية ولا مع اللاعبين، بل مع المعجبين والمشجعين. في هذا الاندماج تصعيد للمتعة فهو يخلق (جواً)... يخلق نشوة. فالحدث المهم إذن ليس هو الغناء ولا اللعب، ولكن ظهور الفنان المشهور أو المنتخب المشهور وجو الحفل والجموع الحاضرة هي التي تصنع الحدث. وهنا يلتقي الفن والرياضة في ظاهرة الإعجاب الذي يبديه المتفرجون (أو الحاضرون)، وكلما زادت مهارة اللاعبين وإتقان الفنانين زاد اشتعال الحماس والإعجاب والاندماج في (الجو). أما ما عدا ذلك فلا شيء يوحي بأن الرياضة من جنس الفن، حتى لو وصفنا صاحب المهارات الرياضية وصفاً عامياً وقلنا (هذا اللاعب فنان). أما إذا تفنّن اللاعب - حقيقة لا مجازاً - في لعبه لكي يثير إعجاب المتفرجين، فإنه قد يضيع الفرصة على فريقه فيخسر المباراة من جراء ذلك، بينما أمنية الفريق - وكذلك المشجعون - هي إحراز هدف لا إمتاع المتفرجين. وما كرة القدم إلا نموذج لكل أصناف الرياضة. فإن الرياضة مظهر من مظاهر التعبير عن التفوق والقوة والتحدي بالحركات الجسمانية المنسقة. وهي في أبسط مظاهرها متعة لمن يمارسها، كما هي الحال مثلاً في السباحة أو ركوب الخيل أو تسلق الجبال - ولا نغفل هنا متعة الصبية وهم يلعبون كرة القدم في فناء المدرسة أو فناء البيت أو في البر -. وقد لا تكون الممارسة من أجل المتعة فقط وإنما أيضاً من أجل صيانة الصحة أو الرشاقة. وأياً كان غرض الممارسة الرياضية، فإن طابع القوة والتحدي الذي يطبعها يتطلب جهداً إضافياً يبذله الجهاز العصبي الودي - وهو جهاز النشاط والعمل والتوثب. غير أن الوصول إلى ذروة الإتقان والتفوق في أي من أصناف الرياضة لا يقدر عليه إلا القلة من الناس الذين تتوافر لديهم اللياقة الجسمية والمهارة والهواية وحظوا بتدريب مبكر منذ الصغر عندما يكون الجسم طرياً قابلاً للترويض. ويقابل هذه القلة عامة الناس الذين لا يمارسون الرياضة ولكنهم معجبون بها ويريدون أن يكون لهم نصيب من المتعة بمشاهدتها وكلما ازداد اللاعبون إتقاناً وبراعة زاد عدد المشجعين والمشاهدين وأوقدوا نار التنافس بقوة تشجيعهم وتحفيزهم للاعبين. ومن أجل هذا تقام المسابقات الرياضية وتمنح الجوائز والكؤوس. ما هي متعة الرياضي وما هي متعة المشاهد في هذا كله؟ فأما الرياضي فيظل يغالب الخصم ويبذل أقصى الجهد. وكلما نجح في تخطي عقبة شعور بالرضا والثقة بالنفس والقدرة على مواصلة الجهد والتحدي إلى أن يبلغ غاية الاستمتاع بتحقيق النتيجة المطلوبة. وفي كل ذلك هو متحفز متوتر مشحون الأعصاب. وكذلك المشاهد. فهو أيضاً متوتر أو متحمس أو على أقل تقدير مترقب مأخوذ بالحركات والكر والفر وجهازه العصبي الودي مشحون بالانفعالات. هل يسير الفن على ذات المنوال؟ الفن يتطلب فعلاً الهواية والمهارة والتدريب، لكن بدرجة أكبر لا بد من وجود الموهبة الكامنة في صلب شخصية الفرد التي تتأثر حقاً بالبيئة الأسرية والاجتماعية والثقافية المحيطة ويتم صقلها بالتدريب ولكن بدونها لا ينشأ فن. هناك - كما هو معروف - معاهد للموسيقى والتمثيل وغير ذلك من الفنون - وحتى في مناهجنا التعليمية الجامعية هناك محل للتربية الفنية - ولكن هل كل من تخرج من هذه المعاهد أصبح فناناً؟ الموهبة الفنية هنا تتجسد في المقدرة على التعبير عن مكنون النفس والخيال والشعور. وحيث إن الجمال والإبداع والإتقان في العمل الفني لا يبلغه إلا الموهوبون - وهم قلة - ويقابلهم عامة الناس الذين يتاح لهم من خلال نشره أو عرضه أن يتذوقوه ويستمتعوا بمشاهدته ويشاركوا في الانفعال به. وإظهار الاستحسان والإعجاب أكبر باعث لرضا الفنان ومتعته، أو بلوغ قمة متعته. لأن متعته تبدأ قبل ذلك مع بداية تشكيل العمل الفني - أي منذ أن تلمع في خياله الفكرة المركزية التي يتبلور حولها ما يريد التعبير عنه إلى أن يكتمل العمل الفني. والشعراء القدامى يرمزون لذلك بشيطان الشعر - وقد يكون لغيرهم شياطين من نوع آخر.
أما متعة المتذوقين والمتفرجين فإنها من نوع يختلف عن متعة الفرجة الرياضية. الجهاز العصبي المنفعل هنا هو الجهاز العصبي اللاودي - جهاز الدعة والاسترخاء. فالمشاهد هنا حين يستمتع بجمالية العمل الفني ويتذوقه يشعر بالانشراح واللذة شعوراً لا يتقلب ولا يتوتر - كما هي الحال في المسابقات الرياضية.
ولعل من الطريف أن نلاحظ في هذه المقابلة بين الفن والرياضة تعاكساً في الاتجاه، فالحركات الرياضية - وهي حركات ظاهرية منسقة - يتجه تأثيرها إلى المشاعر الداخلية وشحنها بالانفعالات وإثارة غرائز حب البقاء ونشوة القهر والقوة. أما العمل الفني فإنه ينبع من داخل النفس ويعبر عن مكنونها بصور خارجية مسموعة أو مقروءة أو مشاهدة، فيعكس مشاعرها وأحاسيسها بصدق. ولأن كثيراً من الناس يملكون المشاعر ذاتها ولكنهم لا يملكون القدرة على التصوير الفني لها، لذا فإن العمل الفني أقرب إلى التعبير عن ثقافة المجتمع - وهنا يخطر على البال العبارة المشهورة: (الشعر ديوان العرب). ويكفي أن نستذكر في أذهاننا أغراض الشعر لندرك ما تعنيه هذه العبارة في مفهوم الثقافة. على أن هذا المفهوم ليس عنصراً أحادياً بل هو مركب من عدة عناصر منها الفنون والعادات والتقاليد والتراث والأفكار والقيم واللغة وما يتفرع منها من لهجات. وهي في مجموعها تنسج الأنماط والممارسات الحياتية في أي مجتمع أو فئة متجانسة من البشر.. إن الرياضة تندرج بالتأكيد تحت هذا المفهوم إذا كانت ظاهرة عامة، مثل كرة القدم ذات الشعبية في أكثر دول العالم، ولكنها ليست هي الرياضة الوحيدة المحتفى بها - ففي دول المناطق الباردة هناك رياضة التزلج، وفي الولايات المتحدة هناك البيسبول على سبيل المثال. لكن تلك الدول تنمي ثقافة الرياضة عند شبابها منذ الصغر وتشجع المواهب الصغيرة على ممارسة هواياتهم الرياضية وتدريبهم عليها وتعلي من شأن مختلف الألعاب بكل جدية ومداومة وانتظام ولا تكتفي بقذفها في سلة الأنشطة اللاصفية.
وفي بلادنا الغالية هناك ممارسات رياضية محبوبة غيركرة القدم مثل سباقات الهجن والخيل ورياضة القنص. ولكن مثل هذه الرياضات محدودة الانتشار وهي للمتعة الشخصية. ومع ضعف الاهتمام والتشجيع لأنواع الرياضة الأخرى التي تبني الأجسام - وهو أمر تقع مسؤوليته على وزارة التربية والتعليم والرئاسة العامة لرعاية الشباب - فإنه لا وجود لثقافة الرياضة، ومن ثم فإن دور الرياضة في تكويننا الثقافي ضئيل. فأين نحن من تطبيق ذلك التوجيه الحكيم المنسوب إلى الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل؟