أسخف نصيحة تقدمها اليوم للمراهق ابن السادسة عشر أو يزيد مع بداية إجازته الصيفية أن تقول له ناصحاً: « أستغل وقتك بالقراءة «، وأبيخ هدية تحضرها لولدك في هذه السن كتاب جديد وتطلب منه أن يقرأه ويلخصه أو يمارس النقد الواعي عليه، فأنت بهذا الفعل المشين تحكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة، وتحرمه من المتعة واللذة!! - طبعاً كما هي في قاموسه لا كما تعتقد أنت -، وأسوأ اللحظات عند الشاب عندما تحدثه عن أهمية الكتاب ودوره في تكوين الشخصية والبناء الثقافي للإنسان، أو تقول له وبكل ثقة وحماس «...وخير جلس في الأنام كتاب»، فهو يشعر وأنت تتحدث معه بهذه اللغة أنك في وادي والعالم من حولك في وادي آخر.
أعلم أن هذا الكلام قد يكون في حس المثقفين والكُتاب بل وحتى البعض من المراهقين الذين يعشقون القراءة صدمة، وجزماً لا يروق ما قلت لمن هم في سني أو يكبرني بسنوات وينتمي لنفس الطبقة ويحمل نفس المفاهيم ولدية نفس القناعات ويخشى على الكتاب من الموت ولديه يقين جازم بأن القراءة ليست فقط ثراء معرفيا بل هي إضافة إلى ذلك تنمية مهارات وتقوية لغة وفحص عقل ومخاطبة وحوار مع الكاتب الذي أمضى سنوات عمره من أجل أن يبدع هذا المنتج الهام الذي يعده مولودا غاليا على نفسه قريبا من قلبه، ولكن ما ورد أعلاه عند من ينتمون للمدرسة الواقعية يُعتبر هو الحكم الطبيعي بل هو الأصل في عالم الإنترنت العجيب، إذ إن الكتاب إن لم يرحل بالكلية عن دنيا الناس فهو في طريقه للزوال وربما يكون دفنه قريبا، فضلاً عن أن الكتاب اليوم صار إلى التجارية أقرب منه إلى العلمية والأكاديمية الحقيقية المفيدة، والكُتاب مثل غيرهم أضحى المال عند الكثير منهم هو المبتغى وإليه تشرئب الأعناق، ومن أجله يكتبون وفي سبيله يدرسون ويبحثون.
لقد دار بيني وبين ولدي صالح حوار طويل حول علاقته هو بالكتاب، بدأت هذا اللقاء الصريح من اعتقادي الجزم بأهمية ارتباطه الدائم بالمكتبة وتوسيع مداركه بالمطالعة، وانتهى النقاش من قناعته الشخصية بأن القراءة ليست هي الأهم في عالم اليوم بل المهم هو امتلاك المهارات الحياتية التي تأتي عن طريق المعايشة والمخالطة والتدريب والمحاكاة لا القراءة والاطلاع فقط فالمعلومة التي تكد ذهنك في البحث عنها بين دفتي هذا المجلد أو ذاك الكتاب وتسهر ليلك وتفني عمرك من أجلها من السهولة اليوم الحصول عليها وبأقل من ثانية ولا جهد يذكر سوى كتابة أبرز الكلمات التي تريد الوصول إليها. لقد وقفت مع نفسي طويلاً وأنا أفكر بجيل اليوم الذي تبدلت لديه المفاهيم وتنوعت بين يديه المعارف وسهل عليه اختزال الزمان والمكان وصار العالم كله بين يديه، ترى كيف سيكون؟، وما الواجب علينا نحن الجيل القديم نحو هذا المراهق وهو المؤهل للتعامل مع معطيات العصر وتقنياته أكثر منا بل ربما صرنا نحن في نظره نقبع في الأمية المقيتة حتى ولو كنا نحمل الشهادات العليا؟. نعم إن واجبنا الأساس نحو أبنائنا أن نغرس في نفوسهم القيم ونبني في عقولهم القناعات التي نعتقد أنها ستمكنهم من المضي قدماً في حياتهم بأفضل طريقة ممكنة، والقراءة في نظرنا هي المفتاح الصحيح لكل هذا، والباب الواسع الذي من خلاله يدخل الإنسان إلى دنيا الثقافة والفكر، ولكن في عالم اليوم أعتقد أن الجيل الجديد يختلف في نظرته عما هو الحال من قبل فهو يرى أن المفتاح غير المفتاح وأن باب اليوم هو البوابة الإلكترونية لا الكتاب الذي هو باب الأمس، إن علينا نحن الآباء أن نفكر بطريقة مختلفة عن السابق حتى نكون أقرب إلى عالم أبنائنا ومنهجية حياتهم، لقد كنت متحمساً عندما كتبت لولدي قبل ثلاث سنوات تقريباً وفي مثل هذه الأيام رسالة شخصية في هذه الزاوية أنصحه مع بداية إجازته الصيفية بالقراءة الواعية والاطلاع الناقد والعكوف على الكتاب، واليوم أجدني مضطراً لإعادة التفكير من جديد في النصيحة التي يجب أن تقال للمراهق في عصر العولمة الصعب وأصدقكم القول لا أعلم ما أقول له ولكنني على يقين أنه أشد ما يكون إلى نصيحة محب مخلص وفي إلى لقاء والسلام.