التدليس عند أهل الحديث ليس كذباً مستقبحاً بل حيلة مقبولة إصلاحاً عند المحدثين، يلجأ إليها المحدث عند اعتقاده بصحة الحديث المنقول عن طريق من هو ثقة عنده في نفسه عموماً أو ثقة فقط في حديث بعينه، ولكنه ليس بثقة عند جمهور المحدثين أو ليس على شرطه. فإذا حدث هذا «الشيخ المشبوه» بحديث لمحدث يثق به وأراد المحدث إدراج الحديث في مسنده أو في صحيحه، يقوم المحدث بإسقاط اسم «الشيخ المشبوه» من السند ولا يصرِّح بسماعه منه بل بالتعنين عن الشخص الذي بعده في السند، أي بِعن فلان أو قال فلان، فيحتمل السماع منه مباشرة أو عن طريق شخص أو أشخاص لم تُذكر أسمائهم. وعادة ما يلجأ المحدِّث إلى هذا إذا علِم بأن إيراد اسم «الشيخ المشبوه» ضمن السند سيتسبب برد الحديث جملة وتفصيلاً أو تصنيف الحديث ضمن الضعيف.
وللتمثيل على ذلك، فإن هذا ما جعل بعض المحدثين والفقهاء (كابن حزم) يضعفون حديث النهي عن المعازف الوارد في صحيح البخاري، لأن شيخ المحدثين وإمام الفقهاء أبي عبد الله البخاري - رحمه الله - أورد حديث النهي عن المعازف بصيغة التدليس فلم يصرِّح رحمه الله بالسماع من الثقة هشام بن عمار، بل أورده بصيغة «قال هشام بن عمار» رغم أن هشام بن عمار هو شيخ البخاري ونقل عنه البخاري تصريحاً بالسماع ستة أو سبعة أحاديث على ما أذكر، فأنا أكتب من ذاكرتي وأنا على سفر لمسألة بحثتها قبل عشرين عاماً تقريباً.
فعلى قواعد أهل الحديث، فحديث المعازف في البخاري حديث معنعن أو معلق (أي غير موصول السند) لا تقوم به حجة تحريم أو تحليل بل قد يُحتج به في فضائل الأعمال، فالبخاري لا يخفى عليه الفرق بين قال وبين سمعت أو حدثنا. ومن حجج هؤلاء المضعفون لحديث المعازف أن الله لا يحرِّم شيئاً ويجعله من الكبائر العظام ثم لا يثبت إلا بحديث يتيم مُتقوّل في صحته. فإن لازم هذا أنه عليه السلام لم يبين لنا الدين والحلال والحرام ولم يتركنا على المحجة البيضاء؛ فكيف يكون هناك أمر مشهور بين الناس قديماً وحديثاً كالغناء والمعازف فيُحرم تحريم الزنا ولا يجد المسلمون حكمه إلا في حديث مُتقوّل في صحته! ومن حججهم أن البخاري لم يكرِّر الحديث كعادته أو يصل سنده في أبواب أخرى مناسبة، كالأدب واللباس. ومن حججهم أن ليس كل ما ورد في الحديث من الحِر (أي الفرج) والحرير حرام على إطلاقه، فجماع الزوجة والسرية من استحلال الفرج، وسعد بن أبي وقاص استحل الحرير لحكة فيه بإذن الرسول عليه السلام له ولغيره من الصحابة. ومن حججهم أن أحاديث تحريم الغناء قد كثُر وضعها من الوضاعين لما رأوه من فساد المغنين والمغنيات وما يصاحبه من لواط وزنا آنذاك. ومن حججهم أن القول المنسوب لابن مسعود في تفسير قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} لا يثبت سندا ولا معنى لأنه غير مناسب لسياق الآيات بل هو محشور حشراً، وأما سنداً فعلى افتراض ثبوته، وليس بثابت، فقول الصحابي ليس بحجة ما لم ينقل إجماع الصحابة عليه أو تقريرهم له.
وعلى أي حال فكل هذا استطراد قد جاء عفوا، فكل هذه الحجج مردود عليها من المخالفين، ولكن شاهدي هنا هو التمهيد للحديث عن تدليس الفقهاء قياساً على تدليس المحدثين. لذا فمن المناسب هنا إيراد الشاهد من رد ابن حجر العسقلاني (في تغليق التعليق على أحاديث الصحيح) على من طعن في صحة سند حديث المعازف. فقد كان من أقوى حججه العقلية رحمه الله أن الإمام البخاري لم يكن مدلساً ولم يشتهر بذلك، على الرغم من أن التدليس لا يقدح في شخص المحدث نفسه ولكن في صحة الحديث فقط إذا عنعن المحدث أو قوقل (أي نقل الحديث بصيغة قال). وكنت ممن يؤمن بهذا التخريج العقلي لوقار وعظم أبي عبد الله في نفسي حتى تبين لي كثرة تدليس الفقهاء على اختلاف مراتبهم وفضلهم وورعهم في مسائل التحريم من باب الاحتياط، فهم يتوسعون فيحرمون ما لا يثبت تحريمه من أجل سياسة شرعية استحسنوها بعقولهم، وسيكون لنا فيما سُكت عنه في ذلك أحاديث ذو شجون.
hamzaalsalem@gmail.com