الجزيرة - الرياض :
انتقد مختصون الآلية الراهنة لتخطيط وتنفيذ المشاريع في المملكة، وقالوا إنها غير مقبولة من الناحيتين العلمية والاقتصادية في ظل خسائر وهدر يصل إلى أكثر من (100) مليار ريال سنوياً نتيجة غياب التخطيط، وحذروا من عدم وجود تخطيط على المستوى الكلي باعتبار أن كل جهة حكومية تعمل بشكل مستقل عن الأخرى، وقالوا خلال ندوة نظمتها الهيئة السعودية للمهندسين بعنوان «التخطيط الاستراتيجي للمشاريع» إن هناك هجوما قويا من جهات خدمية حكومية مختلفة على الأحياء والشوارع، وأضافوا: مثلا، اليوم يتم حفر شارع لتنفيذ أو صيانة شبكة مياه، وبعد فترة يتم الحفر لتنفيذ شبكة صرف صحي، وبعدها شبكة اتصالات؛ الأمر الذي يكبد خزينة الدولة خسائر مالية مباشرة تصل إلى أكثر من (100) مليار ريال سنوياً، إضافة إلى خسائر مالية وبشرية وزمنية غير مباشرة. وقال خبير التخطيط الاستراتيجي الدكتور سليمان العريني خلال الندوة إنّ الطريقة الحالية في تخطيط وتنفيذ المشاريع غير مقبولة لا علميا ولا اقتصاديا، وتشكل هدرا كبيرا للموارد المالية. وأضاف: من الناحية العملية لا يوجد خطة استراتيجية شاملة ومتكاملة يعتمد عليها بوصفها مرجعا وأساسا في تخطيط وتنفيذ المشاريع بأنواعها. أما خطط التنمية التي تعدها وزارة الاقتصاد والتخطيط، والتي بلغت حتى الآن (9) خطط، وتغطي (45) سنة، فهي في الواقع لا علاقة لها أبداً بتحديد ماهية المشاريع، وأولويات المشاريع، وميزانيات المشاريع، وعلاقة المشاريع. فالمشاريع يتم تحديدها، ووضع ميزانيتها من قِبل وزارة المالية ولا يوجد في هذا التفاوض أي دور لوزارة الاقتصاد والتخطيط.
وأشار العريني إلى ضرورة التفريق بين التخطيط الاستراتيجي وتخطيط المشاريع؛ فالأول يسبق تحديد المشاريع، وهو الذي يحدد حجمها، وأولوياتها، وعلاقاتها، بينما الثاني يتم داخل كل مشروع، حيث يمر كل مشروع بمراحل عدة.
التخطيط والتنفيذ ورحلة المعاناة
من جانبه أشار المهندس حمد اللحيدان، عضو هيئة المهندسين، إلى أن هناك معاناة في ظل غياب التخطيط الشامل للمشاريع؛ الأمر الذي يحدُّ من الاستفادة المثلى منه. وذكر الدكتور محمود مدني، عضو الهيئة، أن من أهم ما يؤثر على مستوى وجودة المشاريع ليس فقط ضعف إدارة المشاريع ولكن سوء التخطيط وعدم وجود خطط مشاريعية شاملة. ويري المستشار لواء متقاعد إبراهيم ناظر أن مفهوم التخطيط الاستراتيجي واستخداماته بدأ مطلع القرن العشرين، وخصوصاً من بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة، أما على مستوى المملكة فما زال غير مفعّل، ويحتاج إلى عمل كبير من قِبل القطاعات الحكومية للاستفادة من هذا العلم. وأوضح المهندس عمر الفايز عضو شعبة المشاريع بالهيئة أنه من المناسب ربط موضوع التخطيط الاستراتيجي بما يتم حالياً من مشروعات وبشكل أكثر المشاريع العملاقة القائمة أو المعلن عن قيامها، كذلك تقييم خطة المشاريع، خصوصاً مشاريع البنية التحتية (مثل مشاريع إنتاج ونقل الطاقة ومشاريع الصرف الصحي).
كما أن هناك عددًا من المشاريع ظهرت خلال السنوات الخمس الماضية في المملكة، وهي مشاريع التطوير المستقل في مجالي الطاقة والمياه، وكذلك مشاريع المدن الاقتصادية. وأضاف: التخطيط الاستراتيجي أولى خطوات النجاح، وافتقاد هذه الخطوة يجعل ما يليها خطوات متخبطة تؤدي إلى طريق مظلم. من جانبها أشارت المستشارة عزيزة الخطيب إلى أهمية مثل هذه اللقاءات التعريفية التي تطرح قضايا مهمة من شأنها أن تسهم في تطوير الكوادر العاملة على المشاريع بمختلف مستوياتهم الهندسية والإدارية بما ينعكس على نتائج المشاريع بمزيد من الإنتاجية من ناحية، وربط المشروع بمظلة أشمل تتكامل فيها العديد من المشاريع من ناحية أخرى. وأضافت أن التعثر الذي نراه في العديد من المشاريع الحكومية والخاصة هو نتيجة ضعف الخطوة الأولى الرئيسية والمتعلقة بالخدمات الاستشارية. وأشاد المهندس عبدالرحمن الهزاع بالمحاضرة، وأكد أنها ركَّزت على جانب مهم، وهو وجود النظرة الشاملة للمشاريع؛ حيث إن الدراسة في كليات الهندسة والدورات الهندسية تركّز على إدارة المشروع الإنشائي فقط، في حين أن هناك حاجة ماسة للتعرُّف أكثر على طريقة تطبيق التخطيط الاستراتيجي للمشاريع، التي يمكن استعراضها بشكل أوسع في ندوات مستقبلية. ورأى المهندس تركي التركي أن من الأهمية توعية قطاعات الدولة بأهمية ودور التخطيط الاستراتيجي؛ الأمر الذي سينعكس على رفع مستوى وجودة المشاريع.
التخطيط طويل الأجل
وتطرق العريني خلال المحاضرة إلى حجم الخسائر المالية والبشرية والمعلوماتية الكبيرة من خلال التعامل مع مشاريع البنية التحتية مثل المياه والصرف الصحي والتصريف الصحي والاتصالات وغيرها، وقال: نلاحظ أن كل حي أو شارع يتعرض لهجوم عشوائي بين حين وآخر من قبل جهات حكومية خدمية مختلفة؛ فاليوم يتم حفر شارع لتنفيذ أو صيانة شبكة مياه، وبعد فترة يتم الحفر لتنفيذ شبكة صرف صحي، وبعدها شبكة اتصالات، وما إلى ذلك؛ الأمر الذي يكبد خزينة الدولة أكثر من (100) مليار ريال سنوياً، إضافة إلى خسائر مالية وبشرية وزمنية غير مباشرة.
وأضاف العريني: من خلال العمل على مفهوم التخطيط الاستراتيجي يمكن تطوير خطة مشاريع شاملة لجميع المشاريع التي تحتاج إليها الدولة خلال فترة زمنية معينة، ويفضل أن تكون طويلة الأجل. وأكد الدكتور العريني أنه لا يمكن تنفيذ مشروع بنية تحتية أو الاستفادة منه دون تنفيذ مشاريع غير إنشائية داعمة له؛ فعلى سبيل المثال هل يمكن تنفيذ معامل تعليمية أو مختبرات دون العمل على تجهيز موارد بشرية متخصصة لإدارة هذه المعامل؟ فكم من مشروع إنشائي لم تتم الاستفادة منه نتيجة عدم توافر العناصر الأخرى اللازمة لتشغيله في الوقت المناسب، وكم من مشروع لم يتم استلامه نتيجة لعدم جاهزية الجهة الحكومية لتشغيله.
دروس يجب التعلُّم منها
واستعرضت المحاضرة عددا من التجارب الدولية الناجحة في تخطيط وتنفيذ المشاريع سواءً على مستوى المنطقة أو على مستوى العالم. ويمكن للمملكة أن تستفيد بشكل كبير من هذه التجارب، كما تمت مناقشة مفهوم المشروع مع الحاضرين، وتم الاتفاق على أن هناك مفهوما مغلوطا لدى بعض المهندسين بأن مصطلح «مشروع» ينطبق فقط على مشاريع البنية التحتية من مبان وطرق وشبكات وغيرها، ولا علاقة له بمشاريع غير إنشائية مثل تطوير الخدمات الصحية والتعليمية. وتم أيضاً عرض عدد من المشاهد، منها حادثة تسرب النفط في الولايات المتحدة عام 2010، وتأثير هطول الأمطار الغزيرة على مدينة جدة عام 2009؛ لتوضيح أن البعض لا يتعلم الدروس رغم تكرار الأحداث والمشاكل؛ فحادثة جدة لم تكن الأولى وقد لا تكون، طالما أننا لا نتعلم الدرس ولا نصحح الأخطاء. فكل هذه الأحداث وغيرها تؤكد غياب التخطيط الاستراتيجي وتفعيله ومتابعته، وتؤكد غياب التعامل مع إدارة المخاطر، وغياب تحمل المسؤولية والمحاسبية. وطالبت المحاضرة بالمزيد من التوعية والعمل على التخطيط الاستراتيجي وتكامل القطاعات الاقتصادية المختلفة. وفي مداخلات عدة اتفق المشاركون، ومن خلال خبراتهم وما يشاهدونه على أرض الواقع، على عدم وجود تخطيط استراتيجي على المستوى الكلي في المملكة؛ حيث إن كل جهة حكومية تعمل بشكل مستقل عن الأخرى.