وجمت وذُهلت، وحوقلت واستدارت بي الذكريات إلى ما يقرب من خمسين عاماً يوم لقيت الفقيد وتعرفت عليه أول مرة، كان في أول بداياته ومبتدأ مشواره وحياته يحاول أن يثبت ذاته..
كانت صحيفة الجزيرة تصدر صباح كل ثلاثاء بإمكانيات محدودة وقدرات محدّدة تسلّمتُ رئاسة تحريرها وسط معاناة وظروف، تعاون الصديق عبدالعزيز معنا يتابع أخبار الفن ويلاحق أنباء الفنانين، يصيب مرّة ويخطئ أخرى شأن كل مبتدِئ ومجتهد، كان خفيف الروح سليم الصدر، سريع الغضب وسريع الرضا أيضاً - وهكذا الإنسان السوي -.
مضت الأيام به وبنا بين كرٍّ وفرٍّ ونجاح وإخفاق، وإقبال وإدبار..
وبعد أن فَتَحت الإذاعة بالرياض أبوابها للمتعاونين من الممثلين والمعدّين وأصحاب المواهب والكفايات، استطاع عبد العزيز أن يصعد وينزل، ويصمد ولا يتراجع، يحاول فلا يحال بينه وبين الوصول..
تركتُ العمل ب(الجزيرة) وهاجرت إلى تونس في سفرة طويلة -سمّيتها الهجرة الأولى- وخَلَفَني في رئاسة التحرير الزميل والصديق خالد المالك، وسارت أمور الجزيرة إلى خير والحمد لله.
غاب عنّي عبد العزيز وغبت عنه سنين عديدة، لكني كنت أسمع أخباره تأتيني من بعيد فأسعد وأغتبط..
كنت أستمع وأشاهد أحياناً بعض البرامج التي كان يعدّها ويدير أكثر مفاصلها، فأُعجب بنضجه ونجاح تجربته، أتصل به هاتفياً وأنقطع عنه دهراً طويلاً..
وفي إحدى زياراتي المتكررة للرياض دعاني لمنزله في شارع متفرع من شارع الأحساء بالملز، حضرت جلسة لم تطل - وليتها طالت - لأني كنت على موعد خشيت إخلافه، وقد شهد تلك الجلسة الكاتب الاجتماعي الأخ الأستاذ عبدالله الكعيد صديق الجميع وموضع ثقة الفقيد.
رحمك الله يا من كنت بعيداً لكني كنت أحسّ بقربك، حزني عليك تضاعف يوم علمت بوفاتك ولم أستطع إيفاءك بعض حقّك وتشييعك إلى مثواك الأخير..
لكن قلت أكفّر عن التقصير ولو بهذا المقال اليسير، أعزّي فيه نفسي، وأعزّي كل محبّ لك ومعجب بك.
أعزّي قبل وبعد، أسرتك الكريمة وأرملتك المكلومة أم حسام رفيقتك في السرّاء الصابرة في الضرّاء، الإعلامية المعروفة الأستاذة سلوى عبدالمعين شاكر.
لقد عَرفتُ بالمناسبة عمها عبدالمنعم رحمه الله الذي كان يعمل مديراً لمطبعة الجيش العربي السعودي بالطائف داخل أسوار ما كان يسمى (القشلة)، إنها ثكنات الجيش التركي قديماً، لقد أزيلت وأقيم على أرضها مجمّع مكاتب الوزراء وديوان الرئاسة.
سبحان الله كأنني أراه -أي عبد المنعم- مبسوط الجسم ملآن، شديد البنية واثق الخطوة، قوي القبضة، يجلس في العصاري أحياناً بدكان صديق له، عنده ذكريات عن شخصيات، تسلّمت أرقى المسؤوليات ثم انسحبت من الحياة بصمت..
كان يختلف إلى جلسة الأخ محمد خلف لمّا أسّس مطبعته الأولى داخل سوق الطائف القديم تحت عمارة البنك الأهلي التي كانت منزلاً لوجيه بالطائف اسمه محمد سعيد أبو ناصف - يوم كان للطائف وجهاء يُعدّون وأعياناً لا يُردّون – كان عبد المنعم يشرب الشاي الطائفي ويدردش مع من يجد، ينفّس عن نفسه بحديث الذكريات ونفائس المفاكهات، فليت الأصدقاء الأعزاء عبد القادر كمال و نايف العصيمي ومحمد الزايدي و محمد الأزاويلي، وغيرهم ممن عاصروا فترة عزّ الطائف وجايلوا شخصيات مرّت به وعاشت في ربوعه، يتحفون القرّاء ويدوّنون للأجيال شيئا مما وعوا قبل أن تمحو السنين الكثير مما شاهدوا ورأوا..
ذكر المرحوم عبد العزيز في جلسة أنه زار تونس يوم كان الشاعر الكبير طاهر الزمخشري نجماً بها والفنان لطفي عقيل زيني يقيم في ربوعها، تقابل مع مواطن تونسي يتابع أغاني طلال مداح -رحمه الله- يشاهد صوره في التلفاز قبل الألوان والفضائيات، حيّاه المواطن التونسي بحرارة وشدَّ على يده بإصرار ظانّاً أنه يسلّم على طلال، وظلَّ يرسل عبارات الإعجاب بطريقة سريعة في الكلام والترحيب دون أن يدع للحمّاد فرصة ليصحح له من هو !! وعبد العزيز يغالب الضحك من المفاجأة والتونسي يبالغ في التحية ولا ينتظر البقية.
نال رحمه الله في حياته نصيباً من صيت و شهرة، لكنه لم ينل حظاً من مال وثروة وهكذا أغلب المبدعين الصادقين مع أنفسهم، الذي تبتّلوا في ملكوت الفن، وأخلصوا لمحرابه وتسرمدوا خلف إهابه..
كان كأي إنسان فوق هذه الأرض لديه أحلام كثار وآمال كبار، قضى ولم يتحقق بعضها ومضى ولم يكملها..
لقد تأوّه وزفر قبله شاعر مدره كأنه يعبّر لنا عن فاجعة الجميع على لسان عبد العزيز:
أكذا نموت وتنقضي أحلامنا
في لحظة وإلى التراب نصير
هذا مقال تركتُ فيه العنان لقلمي يسير مع الذكريات التي أحاطت بي وحاصرتني يوم حضرني خبر رحيل هذا الصديق وفراقه، إنني على البعد أرثيه ولا أستطيع أن أوفّيه:
تركوك في المثوى الأخير وغابوا
وتقّطعت من دونك الأسباب
لقد قَدِمت إلى الرحيم الرحمن العظيم ذي الإحسان، خَلَفَكَ الله على أسرتك وعارفيك بخير، وأظلّت قبرك سماء الرحمة، وأمطرته سحائب الغفران..
* الطائف - عصبة الأدباء