حين برزت إستراتيجية (التناص) لدى نقاد (ما بعد الحداثة) كان من أهم أهدافها تعزيز الرؤية القائلة بأن (النص) ليس عالماً (مغلقاً) أو (مستقلاً) بنفسه، وليس له أي (وجود خاص) أو (منطق) و(نظام) معروف محدد، بل له (وجود) و(امتداد) خارج (كيانه اللغوي) و(إحالة) إلى كثير من (المرجعيات).
كما أنَّ (التناص) يُعزِّز من فكرة (الغياب) التي تقول بأن (الدلالة) في (الخطاب الأدبي) لا يمكن الحصول عليها، وتزعم أن (المعنى) في (النص الإبداعي) لا يمكن الإمساك به، وذلك لأن (المعاني) و(الدلالات) التي يُفترض وجودها في (النص) (غائبة) غير حاضرة في الوجود، بسبب الاعتقاد بأنَّ كل (دلالة) تفترض وجود (دلالة) أخرى قد أُخذت منها وتولَّدت عنها، وعلى هذا الأساس فإنه لا يمكن (فهم) أي (نص) دون الرجوع إلى مجموعة من (النصوص) السابقة التي يُفترض بأنه قد (تناصَّ) معها فاستفاد منها، فأضحى الحصول على (المعنى) منه دون الرجوع إليها أمراً غير ممكن الحصول.
ولذلك فقد رأى نقاد هذه المناهج أن (التناص) ما هو إلا تشكيلُ (نصٍّ ) جديد من (نصوص) سابقة أو معاصرة، بحيث يغدو (النص المتناص) خُلاصةً لعدد من (النصوص) التي تمحي الحدود بينها، وأعيدت صياغتها بشكل جديد، بحيث لم يبق من (النصوص) السابقة سوى (مادتها)، وغاب (الأصل) فلا يدركه إلا ذوو الخبرة والمران.
ويؤكد LEITCH (ليتش) هذه (الرؤية) حين يرى أن (النص) ليس (ذاتاً مستقلة)، أو (مادَّةً موحَّدة)، ولكنه سلسلة من (العلاقات) مع (نصوص) أخرى، فشجرة نسب (النص) شبكة غير تامة من (المقتطفات) المستعارة شعورياً أو لا شعوريا، مما يعني أن (التناص) يعني توالد (النصِّ) من (نصوص) أخرى، وتداخل (النصِّ) مع (نصوص) أخرى، وأن (النصَّ) هو (خلاصةٌ) لما لا يحصى من (النصوص)، ومن هنا (تعالق) (النصُّ) مع (نصوص) أخرى، وبالتالي فلا حدود للنص، ولا حدود بين (نصٍّ) وآخر، وإنما يأخذ (النصُّ) من (نصوص) أخرى ويعطيها في آن، وبهذا يصبح (النصُّ) بمثابة (بصلة) ضخمة لا ينتهي تقشيرها، ف(المعاني) و(الدلالات) فيه (طبقات)، بحسب (القُرَّاء) و(الأزمنة) و(الأمكنة).
وإذا كانت (البنيوية) تنطلق من اعتبار أنَّ للنص الأدبي (بنية) تتجلَّى في (نظامه) و(علاقات) عناصره، فإن (التناص) يهدف إلى تحطيم فكرة (بنية النصِّ) أو (نظامه)، وإذا كانت (البنيوية) تعتبر النصَّ (بنية مغلقة)، فإن (التناصَّ) يعتبر النصَّ (بنية مفتوحة) و(متحركة) و(متجددة)، ويحاول فكَّ اشتباك (النصوص) عن بعضها بعضاً، ليعيد لكل صاحب حقٍّ حقه من السابقين والمعاصرين الذين تتردد (أصواتهم) في جنبات (النصِّ) المبدع، وتُشاهَد (بصماتهم) في صوره وتراكيبه، وإذا كان بعض (البنيويين) قد تمسكوا بمنهجها (الوصفي المغلق)، واكتفوا به في (الدراسات النقدية)، فإنَّ بعضهم الآخر قد انطلق منها إلى محاولات فتح (منافذ) جديدة في (بنائها).
ولذلك يرى Roland Barthes (رولان بارت) أنَّ كل (نص) هو (تناص)، وأن (النصوص) الأخرى (تتراءى) فيه بمستويات متفاوتة، وبأشكال ليست عصيَّة على الفهم؛ إذ فيها نتعرف (نصوص) الثقافة السالفة والحالية، فكل (نص) عنده ليس إلا نسيجاً جديداً من (استشهادات) سابقة، و(التناصية) عند (بارت) هي قَدَرُ كل (نص)، مهما كان جنسه، ولا تقتصر على (التأثر) فحسب.
لقد أضحى (النص) في رؤية هذه (المناهج) (شبكة) مختلفة و(نسيجاً) من الآثار التي تشير بصورة (لا نهائية) إلى أشياء غير نفسها، وإلى آثار اختلافات أخرى، وهكذا يجتاح (النص) كل الحدود المعينة له حين يكون كمجموعة من (الآثار) للنصوص السابقة ومستقر لها خلال عملية (تشكيل)، مما يعني أن (النص المقروء) يعني أكثر مما يقول، وذلك مما يجعل (لا نهائية) (المعنى) هي الحل لهذا الإشكال، مما يعزز التصور الذي يرى بأن (النص) لا وجود له إلا بين مجموعة من (النصوص)، وأن (التناص) هو الذي يضع الأساس لقيام (النص).
ويصل الأمر عند أصحاب هذه المناهج إلى (التطرف) و(المبالغة) في تصورهم لهذه (القضية)، فيرى بعضهم أن كل كلمة في (النص) الحالي قد سبق استخدامها في (نص) آخر أو سابق، وأنها تجسد إمكانية (اقتطافها) في كل مرة تكتب، وينتهون إلى أن (النص) عبارة عن (ترسبات ثقافية)، وأن ما تفعله (القراءات المتعددة) ما هو إلا عملية (تقليب) للنص حتى تطفو إلى سطحه هذه (الترسبات الثقافية) المختلفة!
وأحسب أنَّ إستراتيجية (التناص) التي أكدت عليها هذه (المناهج) وجعلتها ضمن أهم المبادئ (الرؤيوية) في التعامل مع (النصوص الأدبية) هي نتيجة طبيعية لعدة عوامل وأسباب وظروف ساعدت على نشأتها والقول بها، أبرزها أنَّ هذه (الإستراتيجية) تحقق (رؤية) هذه المناهج التي ترى أن (النص) (غير مغلق) و(لا مستقل) بنفسه، وهو عكس ما قال به (البنيويون)، وذلك أنهم رأوا فشل (البنيويين) في رؤيتهم للنص على أن (عالم مستقل) له (مركز ثابت)، وأنه عمل (منضبط) (محكم) لا فجوات فيه؛ لأنه يقوم على (بنية ثابتة) غير قابلة للهدم والنقض، فجاءت هذه (الإستراتيجية) كردة فعل لرؤية (المناهج الشكلية) لعلهم ينجحون فيما فشل فيه السابقون.
كما أن هذه (الإستراتيجية) تخدم فكرة (الغياب والحضور) التي أكد عليها هؤلاء القوم، وهي التي تحدثت عنها في مقال سابق وأشرت إليها آنفا، إضافة إلى أن هذه (الإستراتيجية) تتيح لهذه المناهج (لا نهائية) (المعنى) التي تعد من أبرز الأساسات التي يعتمدون عند (قراءة النص) و(تحليله)، ولذلك فهم يرون أن هناك (نصوصاً) (قرائية) يستهلكها (القارئ) مرة واحدة ولا يعود إليها، وأخرى (كتابية) يعود إليها (القارئ) أكثر من مرة لإعادة (كتابتها) مع كل عودة جديدة، ويرون أن ذلك هو (معيار) وجودها، كما أن هذه (الإستراتيجية) -وهذا هو المهم- تُعزِّز من دور (السلطة الأدبية) التي ارتضتها هذه المناهج لتكون هي (السلطة الأعلى) في مقاربة (الخطاب الأدبي)، وهي سلطة (القارئ/ المتلقي)، لأنَّ تطبيقها يتيح له (الحرية) الكاملة والمطلقة في (تفسير النص) كما يريد، و(تحليله) كيف يشاء.
ولذلك يؤكد نقاد هذه المناهج أن (التناص) أمر لا بد منه في كل (نص)، وأنه مهما أراد (المبدع) تجنبه فإنه لن يتمكن من ذلك؛ ولذا يرى بعضهم أن (التناص) بمثابة الهواء والماء والزمان والمكان للإنسان، فلا حياة له من دونها، ولا عيشة له خارجها! وهكذا فكل (نص) جديد لدى هؤلاء هو في حقيقته (تناص)، ف(النص) الجديد كما يرى Heidegger (هيدجر) ينشأ عن (نصوص) سابقة، ويحمل في داخله بقايا (التراث الثقافي)، وكأن الشاعر من منظور (هرمنيوطيقي) يمسك بيده (معولاً) يدمر به (التقاليد) و(تراثها) المتراكم من (النصوص) ليعيد تركيب ما يستحق الاحتفاظ به مما يكشف عنه خدمةً للنص الحاضر.
إن هذه النظرة (المتطرفة) للنص من خلال (التناص) هي في الحقيقة قتل لإبداع (المؤلف)، وعدم اعتراف بجهده في إنشاء (الخطاب)، وإلغاء لفِكرِهِ في خلق (النص)، لأن هذا التصور للنص من خلال (التناص) يحيل (المؤلف) إلى مجرد (جامع) لملصقات ومقتطعات ومقتطفات قديمة قد سُبق إليها، وليست وظيفته سوى القيام بتشكيلها وخلطها وتنسيقها ليخرج إلى الوجود ما يظنه (نصاً) جديدا، وبالتالي فلا (المؤلف) مُبدِعٌ مُبتكِر، ولا (النص) الذي نقرأه مُبدَعٌ مُبتكَر، وهذا بلا شك يُفقِد (القارئ) اهتمامه بالنص وقيمته، ويجعله ينظر إليه نظرة دونية، والمشكلة الكبرى أنه سيتعامل معه على هذا الأساس، وهذا أحد الأسباب التي تجعل (القارئ) يأخذ حريته في (تفسير النص)، و(تقويله) ما لم يقل، ويُنتج (دلالات) ويكشف عن (معان) دون أي (تعويل) على (لغة داخلية) أو (سياقات خارجية).
إضافة إلى أن هذه المناهج حين تتبنى هذه الإستراتيجية/ (التناص) وتدعو إلى تطبيقها عند (مقاربة) (النصوص الأدبية) فإنها (تتناقض) مع نفسها و(تتصادم) مع (المبادئ) التي قامت عليها في الأصل، فقد ذكرتُ غير مرة أن مناهج (ما بعد الحداثة) قامت على إلغاء (مركزية) الأشياء ونسف (التقاليد)، لكننا نتفاجأ هنا أن هذا (التناص) الذي يقولون به ويدعون إليه يقوم في الأساس على فكرة أن (الماضي) يشكِّل (الحاضر)، لذا فهم يرون وفق هذا التصور أنه لا يمكن (قراءة) شاعر بمعزل عن الشعراء السابقين، وأن (النص الجديد) له حضور متزامن مع (النصوص) الأخرى للسلف، وهو (تناقض) قد تعودنا أن نلحظه عند كثير من هذه المناهج.
Omar1401@gmail.com