«لا أستطيع أن أغير حقيقة أن لوحاتي لا تبيع.
ولكن سيأتي وقت، يدرك فيه العالم أن لوحاتي تفوق قيمتها .. قيمة المواد المصنوعة منها!»
فينسنت فان جوخ
لا يمكن الزعم أن استشرافة فان جوخ هذه كانت خاطئة، ولكن يمكننا القول إنها لم تكن دقيقة. فلوحاته، فاقت قيمتها قيمة المواد المصنوعة منها ملايين المرات على أقل تقدير!
في حياته القصيرة الشائكة والتي لم تتجاوز السابعة والثلاثين، امتلأت بكثير من الغموض، والأمراض النفسية، والجنون بكل ما في الكلمة من معنى.
لكن ذروة جنونه تتمثل بهذه الحادثة غامضة التفاصيل: حادثة قطع أذنه، والتي خلّدها فان جوخ في لوحة يعتريها الغموض، والملامح الباردة، والعيون التي لا تكاد تعبّر عن أي شيء سوى الجنون! وهو يُدخّن غليونه في منتهى البرود!
فان جوخ رمز للفنّان المعذّب، والسابق عصره بكل معنى الكلمة. رسم في حياته ما يفوق الألف لوحة، ولم يبع في حياته سوى لوحة واحدة!! وظل يرسم ويرسم، وينطلق إلى أبعاد جديدة في فلسفة اللون والضوء، ولا دخل مادي له سوى مساعدات من أخيه الذي كان تاجر تحف ولوحات فنيّة. ومع هذا، فإنه لم يستطع أن يبيع لأخيه سوى لوحة واحدة بأربعمائة فرانك فرنسي، قبل انتحاره ببضعة أشهر. ولكنّه وفي كل رسائله التي كان يبعث بها لأخيه وداعمه المادي، كان يقول له إنّه «في المستقبل سيدرك الناس قيمة فني». أصاب فان جوخ في توقعاته، ولكن بعد فوات الأوان، بعد حياة يملؤها البؤس والشقاء. وتنتهي بانتحار هيستيري بعد عامين فقط من حادثة قطع أذنه!
فان خوج، ذاك الفنان المجنون الذي عُرف عنه أنّه قطع أذنه وقدّمها لمومس، وهو في نوبة جنون عصبي في ديسمبر 23 من عام 1888. وتُروى الحكاية أنّه لفّها في قطعة من القماش وأهداها لتلك المومس؛ لأنه لا يملك المال!! ثم استلقى على فراشه ينزف حتى كاد أن يموت. هذه هي الرواية التي تمسّك بها فان جوخ، ونشرها أثناء حياته. لعلّه أنّ يجد لذّة في التعبير عن جنونه المطلق. فكثير من الفنانين يُعرف عنهم تلذّذهم بإشاعة جنونهم، لارتباط العبقرية بالجنون. لكن نظرية حديثة تطرح نفسها حول حادثة قطع أذنه.
كان فان جوخ لا يستطيع أن يعيش وحيداً؛ لأنّه بحاجة دائمة لدعم نفسي؛ لذا توسّل صديقه الفنان بول جوجوين أن يعيش معه في ما سمّاه «البيت الأصفر»، في جنوب فرنسا.
حياتهما معاً كانت عبارة عن جحيم ل «جوجوين». فرفيقه مجنون، لا يأكل، يُدخن الغليون طوال الوقت، وفرش الألوان يمسك بها في فمه (مما يطرح لاحقاً في نظريات حديثة أن المواد الكيميائية في الألوان كانت أحد أسباب جنونه)، ثمل طوال الوقت، ونوبات غضب هستيري تجتاحه بين الحين والآخر. وآخرها، أن رمى رفيقه بكأس من الزجاج. فثارت ثائرة رفيقه، وقرر أن يُغادر المنزل. لكن فان جوخ، المضطرب نفسيّاً، اجتاحته نوبة جنون أثناء مغادرة رفيقه، فصار يلحق به إلى الشارع، وفي لحظة قام «جوجوين» بحمل سكين وقطع بها أذن فان جوخ، إما دفاعاً عن النفس، أو في حالة غضب.
هذه هي النظرية الحديثة التي اقترحها المؤرخان الألمانيان المتخصصان في تاريخ الفنون: هانس كوفمان وريتا وايلدجنز. ولكن، التزم الصديقان طوال فترة حياتهما أن يُخفيا حقيقة هذه القصة. لكي يظل ل «جنون» فان جوخ رونقاً متميّزاً! وقد نجح في هذا. ف «جنونه» لعب دوراً كبيراً في توقّف التاريخ عنده كحالة عبقرية نادرة الحدوث.
اليوم، يشخّص الطب النفسي الحديث حالة فان جوخ بأنها: جنون هستيري، وازدواجية قطبية الشخصية، وانفصام شديد في الشخصية. ولكنه، ومع كل هذا، ومع أن حياته الفنية قصيرة، فقد بدأها في عمر الثامنة والعشرين، وأنهاها انتحاراً في السابعة والثلاثين. إلا أن ضربة ريشته، وفقهه لفن اللون والضوء، والأبعاد الفلسفية التي تميّز جميع لوحاته، تجعل منه فناناً خالداً، ومن أعماله مدرسة تُدرّس في الأكاديميّات كأهم تحف عرفها تاريخ الثقافة الإنسانية!