من رسالة بعث بها الأستاذ أحمد الراشد المبارك يرحمه الله إلى الأستاذ عبد الرحمن العبيد عام 1377هـ قال فيها: (ولدت في الأحساء في تاريخ لا أعرفه الآن.. وليس الذنب ذنبي ولا ذنب ذاكرتي.. ولكنه ذنب أسرتي حيث لم تحفل بتدوين ذلك التاريخ.. غير أني أعتقد أن الأيام تدفعني نحو الأربعين.. والحنين يجذبني نحو الثلاثين.. وحبذا لو ظللت الطريق بين الاثنين.. تلقيت جزءا من دراستي في البحرين ثم حالت الظروف الخاصة دوني ودون إكمال التعليم في جميع مراحله).
|
وفي صبيحة اليوم السادس والعشرين من شهر ذي الحجة عام 1415هـ، اختطفت يد المنون من بيننا الأستاذ الأديب أحمد بن راشد آل مبارك، بعد معاناة طويلة مع المرض استمرت سنوات، وقد أذن الله لها بالنهاية لوضع حد لتلك المكابدة التي أرجو أن تكون محسوبة في ميزان الحسنات لهذا الفقيد العزيز.. الذي عرفته عن قرب، وخبرته عن صحبة طال أمدها، فكان نعم الأستاذ المرشد الموجه.. وكان نعم الصديق، الناصح الأمين..
|
إن ملازمة ثلث قرن ليست بالشيء اليسير في مسيرة الحياة، وانقضاؤها بهذا الشكل ليس بالأمر الهين الذي تسمح به النفس عن طيب خاطر.. ولكن الأسى لا ينفع والجزع لا يرد القدر المكتوب الذي هو خاتمة كل حي.. فلو كنت شاعراً لخانتني القوافي.. ولو كنت كاتباً لما طاوعتني العبارة حتى أقول ما أريد فليرحمك الله يا أبا هشام فإن لك أسوة بمن مضى من هذه الأمة وخيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربه سبحانه وتعالى بقوله عز من قائل : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } (30) سورة الزمر. وكل ما أرجوه من الله العلي القدير أن تكتب في سجل حسناتك دقائق معاناتك، وأن تهب عليك نسائم الرحمة.
|
نشر هذا التأبين في جريدة اليوم العدد 8017 بتاريخ 18-12-1415هـ، وبعد وفاته قامت كريمته (هيفاء أحمد راشد المبارك) بطبع ديوانه (الصدى الضائع) بمقدمة كتبها الشيخ حمد الجاسر يرحمه الله تحدث فيها عن المرحوم وعلاقته به، مشيرا إلى ما كان يتمتع به من حس أدبي يتميز بالجزالة ورهافة الحس وأناقة التعبير. كما افتتحته الأستاذة هيفاء بنت أحمد الراشد آل مبارك بمقدمة قصيرة بينت فيها الهدف من نشر هذه المجموعة من القصائد قالت فيها:
|
(إن هذا العمل محاولة متواضعة الحفظ ما تبقى من شعر الوالد المرحوم أحمد بن راشد المبارك علها تظل ذكرى لمن عاصروه وأحبوه وللتاريخ لشاعر رقة وشفافية تميز بهما شعره بالإضافة إلى تميزه بالعمق والصدق وهي سمات بارزة في شخصيته يرحمه الله).
|
والواقع إن هذه المجموعة في اعتقادي لا تمثل إنتاج الشاعر أحمد بن راشد المبارك من حيث الكمية لأنني أعتقد أن إنتاج خمسين عاماً في ممارسة الأدب شعراً ونثراً قد تكون مرشحه لأن تكون ديواناً ضخماً من الشعر الجيد ومجلداً بل عدة مجلدات نثرية من المقالات التي نشرت في الصحف والمجلات العربية. ولا شك أن الأستاذة هيفاء قد أسدت خدمة للأدب والأدباء يحفظ هذه المجموعة المتميزة من القصائد التي تنوعت أغراضها وأهدافها وتكونت أشكال طرقها لتكون باقة عطرة في ساحة الأدب وإنني أتساءل أين هي تلك المقالات الأدبية والاجتماعية التي نشرها في الصحف والمجلات العربية والمحلية (مجلة صوت البحرين، ومجلة الرابطة المصرية، ومجلة الأمالي اللبنانية، والرسالة القاهرية، ومن الجرائد المحلية: جريدة الخليج العربي، وجريدة أخبار الظهران).
|
والمجموعة الشعرية التي طبعت كما أشرت تحتوي عدداً من القصائد أغلبها في الغزل الذي يتم عن شفافية وفنية طرح لا يجيدها معظم الشعراء إذ تنسج من الخيال واقعاً يتصوره القارئ يتحرك أمامه في قصيدة الحلم:
|
إن في عينيك حلماً عبرته النظرات |
فيه للحب معان لا تفيها الكلمات |
فيه أشتات الأماني ووميض الذكريات |
فيه أطياف صبانا والليالي النضرات |
يوم كنا في حياة فذة في زمام الصبوات |
نقطع الليل إلى الإصباح في هاك وهات |
يوم كان العقل مجنونا غريب النزوات |
هكذا قد فات أمسي لا تسلني كيف فات |
وعندنا بلغه خبر اغتيال ابن عمه خليفة بن الشيخ أحمد بن عبد العزيز الذي كان سفيراً لدولة الإمارات العربية لدى فرنسا، حاول أن يبتلع المرارة وأن يكتم الألم إلا أن الحزن يثور وينطلق في صورة عاصفة يتجلى في مقطوعة بعنوان شلت يد البغي منها هذه الأبيات:
|
إلى روح أخي وابن عمي، شهيد أمته وقوميته:
|
جف اليراع وماتت في فمي الكلم |
فالحزن منتصر والصبر منهزم |
هتفت بالقلب أستجديه تعزية |
وكان صلباً يرى الجلى ويبتسم |
فلم أجد عنده سلوى ولا عظة |
قد طاش منه النهي والحلم والحكم |
آه خليفة ! والجلي إذا كبرت |
تكاثر الهم حتى خارت الهمم |
ما ضر دهرك والأرزاء مطبقة |
لو دمت نجتر بلوانا ونقتسم |
يا سامر الحي لا تمرر بساحتنا |
فبدرنا غاب تما وانطوى العلم |
فالحي بعدك لا عين ولا أثر |
قد أقفر الربع والسمار أين هم ؟ |
شلت يد البغي ما أقسى جنايتها |
لم يثنها خلق كلا ولا رجم |
ولا تذكرت القربى وموقفنا |
إن داهم الخطب أو زلت بها قدم |
وقد احتوت المجموعة عدداً من قصائد الرثاء لابن عمه الشيخ عبد العزيز بن حمد، والشيخ عبد العزيز العلجي، وأخيه الأستاذ عبد اللطيف بن راشد، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف، وبين الغزل والرثاء ومع تأجج تلك العاطفة الإنسانية في الحالتين لا ينسى مسقط رأسه الأحساء فقد خصها بمقطوعة شعرية بعنوان (هجر) مليئة بالصور المعبرة عن اشتياق الشاعر لتلك المرابع التي قضى بينها ربيع طفولته جاء فيها:
|
يا هجر يا أم النخيل |
ومنابت المجد الأثيل |
لهفي على أمسية |
في ظل مرجك أو مقيل |
إن أنسى لا أنسى الخدود |
بذلك السهل الجميل |
من كل فرعاء القوام |
تبوح همساً للنزيل |
والنهر صفحته تحاكي |
صفحة الخد الأسيل |
والغاديات الرائحات |
لشاطئه النبيل |
يا رب كم سر حواه |
ولو حكى شفى الغليل |
ونظمت أحلى الشعر |
في حسن يجل عن المثيل |
لا ليس من صنع الخيال |
أنا دائماً صدق المقيل |
إن جاء يوم يستظل |
بذلك الظل الظليل |
وليس غريباً أن يأتي شعر الأستاذ أحمد يرحمه الله بهذه العذوبة في الطرح والأناقة في الألفاظ مع قوة العارضة مما يدل على تعمق في ممارسة الأدب والشعر فهو أحد أعلام الأدب بمنطقة الخليج العربي وسليل تلك الشجرة الوارفة الظلال التي امتدت أغصانها إلى بعض دول أنحاء الجزيرة العربية، العراق، والكويت، والبحرين، ودولة الإمارات العربية المتحدة، تعلماً وتعليماً وخطاية وإمامة، فهم أولئك الأقمار التي سطعت على سماء الأحساء في وقت كانت تحتاج فيه إلى مزيد من معطيات الثقافة وأوعية الأدب فإن بين أفرادها العديد من القضاة والشعراء والأدباء والعلماء ومنهم من شغل الوظائف العامة في أرقى المراتب ولا تزال مجالسهم ومنتدياتهم الخاصة تستقبل من يؤمها من الأدباء والمثقفين ولعل في مجلس الأسرة الذي يجتمع فيه الكثير من أفراد الأسرة وأحدية الدكتور راشد بن عبد العزيز بالرياض وأحدية الشيخ أحمد بن علي بالأحساء، ومجلس الأستاذ أحمد يرحمه الله بالخبر الذي علمت أن له دراسة بعنوان (المذاهب الفكرية في الإسلام) شواهد على ما لهذه الأسرة من عميم الفضل في هذا الميدان.
|
|