المتتبع للمشهد الثقافي سيجد أننا في الفترة الأخيرة قد ابتُلينا بفئة من «هواة الكتابة الثقافية» الذين يتوهمون بأنهم من حاملي لواء «تحرير المثقفة السعودية»، وأنهم قادرون على صناعة دليل إرشادي لتكوين خطابها ونجاحه «افعلي ولا تفعلي»!
والذين أعطوا لأنفسهم حق الوصاية على الخطاب الثقافي للمرأة تحت عنوان «الخطاب النسائي» و »النقد النسوي» يقلبونه كيفما اتفق لهم، ويحرفونه عن مواضعه من أجل استغلاله لمآرب خاصة، وهؤلاء هم «الأبويون الجدد» الذين يتخفون تحت قناع «نقاد الخطاب النسائي والنقد النسوي» مدعمين فكرة «للنساء فقط»، التي تدعو إلى «تحريم اختلاط» الخطاب الثقافي الذي تنتجه المثقفة بالخطاب الثقافي الذي ينتجه المثقف، وتكرّس لفكرة «حجاب» الخطاب الثقافي الذي تنتجه المثقفة عن الخطاب الثقافي الذي ينتجه المثقف عبر حبسه داخل قفص «النسائية والنسوية» وذلك الحبس يمنعها من المشاركة المتوازنة والمتكافئة مع المثقف في تحليل الوثيقة الثقافية وتغييرها وممثلاتها، وبذلك فهم يجردون الخطاب الثقافي للمثقفة من إنسانيته على مستوى الشمول والوظيفة ليحنطونه داخل قارورة النوع الجنسي.
ولذلك فأنا أعتبر مصطلحي «النقد النسوي، الخطاب النسائي» إحياء لفكرة «الحريم والحرملك»، أو هكذا أظن.
والفكرة التي يعتمد عليها مروجو الخطاب النسائي أو «الأبويون الجدد» الذين يفضلون دوما القيام بدور السائق الثقافي للمثقفة هي أن الخطاب الثقافي الذي تنتجه المثقفة يحمل خصوصية النوع، وهذه فكرة حسبما أعتقد غير صحيحة لأسباب عدة، عندما تدرس الخطاب الثقافي للمثقف سواء الرجل أو المرأة فأنت تدرسه وفق محورين: تقنيات المبنى وتقنيات المعنى، بصرف النظر عن جنس صانعه، وبما أن المثقف والمثقفة يخضعان معا لتأثيرات تقنيات المبنى واستراتيجياتها كونهما آليات صناعة الخطاب الثقافي، فهما يتساويان في قيمة الحاصل وإن اختلافا في تقديرات مستوى القيمة وتدرجاتها، والاختلاف هنا لا يتعلق بالنوع بل بكم الممارسة التطبيقية وإنتاج التمرينات التي يخوضها كل من المثقف والمثقفة، فالكمية والكيفية الإجرائيتان هما معيار النضوج سواء عند المثقف الرجل أو المرأة، وكلما أكثر المثقف سواء الرجل أو المرأة من الإجرائية التطبيقية أنضج مهارته المهنية في صناعة الخطاب الثقافي.
أما المحور الآخر الذي يعتمد عليه المثقف سواء الرجل أو المرأة في إنتاج الخطاب الثقافي فهو «المعنى»، فهل تطوُّر المعنى أو نضوجه في الخطاب الثقافي يخضع لتأثيرات جنس المثقف «رجل/ امرأة»؟.
وقبل الإجابة عن هذا السؤال أريد أن أنبّه إلى أننا عادة نضبط «سلم نضوج المعنى» عند المثقف سواء الرجل أو المرأة وفق أسس طريقة التفكير العقلاني.
أما الإجابة عن السؤال السابق فهي تتضمن ثلاثة أمور، أولها أن الخطاب الثقافي يجمع بين ثلاثة أنواع من نصوص الخطاب، هي الأدب، والنقد، والفكر، وكل نوع من هذه الأنواع لها استراتيجياتها على مستوى تحليل المعنى وظهور الذاتية أو غلبة الموضوعية وقربها أو بعدها من أسس طريقة التفكير العقلاني، واحتياجها أو عدم احتياجها لآليات التقمص وتمثيل الأدوار، وثانيها أن المثقف الرجل أو المرأة يتساويان في ممارسة طريقة التفكير العقلانية لأنهما يتعاملان مع إشكالية جدلية «محتوى الخطاب»، وثالثها أن المثقف الرجل أو المرأة يخضعان لنفس التأثيرات العرفية على المستوى الاجتماعي والديني والسياسي ولقوانين السجل العرفي وضوابطه وحدوده وسقوفه، كما يخضعان لنفس عوامل التغيير.
وقد يرى البعض أنه رغم مساواة خضوع المثقف سواء الرجل أو المرأة لتأثيرات السجل العرفي وقوانينه والتساوي في خضوعهما لعوامل التغيير، إلا أن الرجل يستطيع التمرد على قوانين السجل العرفي دون المرأة، وممارسة حاصل التغيير دون المرأة، ولا أتفق مع هذا الرأي؛ لأنه مبني على «حرية السلوك» فهل اختلاف درجات «حرية السلوك» ما بين المثقف سواء الرجل والمرأة يؤثر على صناعة الخطاب الثقافي عند كليهما ويقرر لممارسة التمييز ضد الخطاب الثقافي الذي تنتجه المثقفة؟
المثقف سواء الرجل أو المرأة في صناعة الخطاب الثقافي، فأنا أقصد «المثقف المحترف» لا من ينتمي إلى فئة «هواة الكتابة الثقافية»؛ لأن هذه الفئة لا تستطيع أن تصنع خطابا ثقافيا، والمثقف المحترف سواء رجلا أو امرأة حسبما أعتقد يجب أن يتميّز بميّزتين، هما: امتلاكه لأسس التفكير العقلاني، وقدرته على»التقمص» و»تمثيل الأدوار»، والميّزة الأولى تجعل المثقف يحوّل الظواهر الثقافية وقضاياها إلى إشكالية جدلية، وهذا التحوّل بدوره يرفع المثقف سواء الرجل والمرأة من دائرة جنس المثقف إلى فضاء الإنسانية، وفي ذلك الفضاء تختفي عقدة جنس المثقف، والميّزة الثانية تعين المثقف على التمرد المستمر على طبيعة جنسه، فالمثقف على الاعتبار هو صوت المجتمع يجب أن يعبر عن فئات المجتمع وقضاياه ولا ينحشر في جنسه، أن يمارس التفكير مع المجتمع لا التفكير بدلا عنه، أن يتشارك مع المجتمع في إنتاج الخطاب الثقافي لا أن يفرض على المجتمع أفكاره، وهو لا يستطيع أن يمارس التفكير التعاوني والتشاركي مع المجتمع إلا إذا امتلك قدرة تقمص شخصيات الجمعي، باعتبار أن الجمعي يتشارك في صناعة القرار الثقافي والمثقف يصوغ هذا القرار، ودون تلك الشراكة عبر التقمص وتمثيل الأدوار لا يستطيع أن يصنع خطابه الثقافي؛ لأن الخطاب الثقافي في جوهره هو حوار يعتمد على التعبير عن وجهات النظر والمواقف المختلفة وشبكة العلاقات التواصلية بين وجهات النظر المتعددة ورؤية العالم من خلال المواقف المختلفة. وحتى يتحقق جوهر الخطاب الثقافي يحتاج المثقف إلى تلك الميزتين: التفكير العقلاني والقدرة على تحضير الغوائب من خلال التقمص وتمثيل الأدوار.
ووفق ما يجب أن يتميّز به المثقف المحترف تصبح نقطة «حرية السلوك» لا أهمية كعلامة فارقة ممكن أن تستغل لممارسة التمييز ضد الخطاب الثقافي الذي تنتجه المثقفة، ليس لأن «حرية السلوك» داخل الخطاب الثقافي ستتحول إلى جدلية إشكالية وبالتالي تفقد هويتها كتمييز عنصري فقط، بل لأن المثقفة ستخلق لها نفس مستوى «حرية السلوك» عن طريق الميزة الثانية، أي القدرة على التقمص وتمثيل الأدوار، كما سيفعل المثقف عندما يتناسخ مع العلاقات النوعية التي تختلف عنه عبر التقمص وتمثيل الأدوار.
إنَّ الأمر الذي يغيب علينا دائما أن الأشياء والعلاقات النوعية عندما تنتقل إلى الخطاب الثقافي لا تظل بهوياتها بل تتحول إلى إشكاليات جدلية تخضع لأسس التفكير العقلاني، وتلك الأسس كما ذكرت سابقا يتساوى فيها المثقف المحترف سواء الرجل أو المرأة؛ ما يعني أن الخطاب الثقافي الذي ينتجه المثقف سواء الرجل أو المرأة لا فرق فيه بينهما، وهذا يلغي فكرة تمييز الخطاب الثقافي للمثقفة عن الخطاب الثقافي للمثقف، لكنه لا يلغي مستويات تقدير الجودة والرداءة للخطاب الثقافي عند المثقف سواء الرجل أو المرأة، كما أن علينا أن نفرق بين التمييز المبني على تقدير مستوى المنتج الثقافي، والتمييز الذي يُمارس لتصنيف الخطاب الثقافي والذي يروّج له «الأبويون الجدد» من نقاد النسونة والخطاب النسائي، الذين يحبون أن يمارسوا دور السائق الثقافي للخطاب الثقافي الذي تنتجه المثقفة.
وأعطي مثالا للتميز المبني على تقدير مستوى المنتج الثقافي للمثقف سواء الرجل أو المرأة وفق أسس التفكير العقلاني.
فكما أن هناك من المثقفات من يتميز تحليلهن للواقعة الثقافية بالنضج فهناك مثقفات أخريات في المقابل يسطّحن قراءة الواقعة، وبذلك يصبح لدينا قسمان من المثقفات: الأول يتميّز بالنضج والثاني بالسطحيّة، ومقابل هذا التقسيم هناك تقسيم آخر للمثقفين فالقسم الأول تتميّز رؤيتهم بالنضج والثاني بتسطيح الواقعة، وإذا قسنا القسم الثاني من المثقفات بالقسم الأول من المثقفين لكان الحاصل أن المثقف هنا أكثر تميّزا ونضجا من المثقفة، وإذا قسنا القسم الأول من المثقفات بالقسم الثاني من المثقفين لكان الحاصل أن المثقفة أكثر تميزا ونضجا من المثقف، إضافة إلى وجود التدرج في مستويات تقديرات التميز.
وهذه الجدولة أظنها تضبط عملية الموازنة في تقويم الخطاب الثقافي للمثقف سواء الرجل أو المرأة، وتحمي من الوقوع في فوضى الأحكام وعشوائيتها، وتحدّ من استغلال الأبويين الجدد للخطاب الثقافي الذي تنتجه المثقفة لممارسة «القوامة الثقافية» عليها.