الأزقة ضيقة جدا في حي دخنة ومليحة إلى حد الاختناق بين البيوت الطينية العالية الجدران المتراصة بانتظام، وكأنها تريد أن تحجب الهواء عن العابرين...
...باب خشبي مشرع أو نصف مفتوح مقابل باب كذلك، ولكن واحدا منها لايصك وجهه أبدا عن الداخلين والخارجين ليلا أو نهارا في هذا الزقاق الطويل الممتد بين البيوت الطينية المزينة في أعلاها بزخرف من اللبن على شكل سبعة وثمانية؛ إنه ذلك البيت العريق من بيوت متجاورة عديدة تسمى ب « بيوت الإخوان « وقد بناها محسنون خيرون يبتغون الأجر والمثوبة لتكون سكنا ومأوى لطلبة العلم الذين يتقاطرون على الرياض من القرى والأرياف المجاورة لينتظموا في حلقات العلم بمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم الذي كان يسمى قديما بمسجد الشيخ عبدالرحمن بن حسن ويتلقون على يديه دروسا في أصول الفقه والتفسير والحديث، وعلى يدي أخيه عبداللطيف دروسا في الفرائض والنحو، ويتلقون على يدي نفر آخر من العلماء الفضلاء علوما أخرى مختلفة لا تبتعد كثيرا عن محيط الدين واللغة، ثم حين أنشئ المعهد العلمي بالرياض عام 1371ه وبعده معهد إمام الدعوة عام 1374ه تقاطر الطلبة من قرى وأرياف نجد للدراسة فيهما، فتوزع الدارسون من طلاب المعهدين ثم من طلاب كلية الشريعة واللغة، ثم بعد فصلهما إلى كليتين على جميع غرف هذه البيوت، وكان كل طالب يورث سكنه لمن شاء من أبناء ديرته وأصدقائه، وقد لايجد الساكن الجديد غرفة مهيأة للتنازل عنها فيشارك أحد أبناء قريته في غرفة لا تتجاوز مساحتها عشرة أمتار مربعة !
حين جاء الفتى القروي لأول مرة يزور أخاه في غرفته فوجئ أنها ليست له وحده ؛ بل يساكنه قريب له كفيف يدرس في معهد النور يقال له سعود، وكان لطيفا ودودا حسن المعشر، وعجب من قدرته على معرفة كل ما يريد رغم كف بصره، فهو يذهب إلى الشيء يأخذه من محله وكأنه يراه لا يخطئه أبدا، فحين أدار مفتاح الغرفة في ثقب بابها الخشبي الصغير التفت يسارا ثم همز زر النجفة فاشتعلت الغرفة بالضوء الأزرق الذي كان لدى الفتى من علامات الرياض المميزة ! وحين وضع يده على زر صغير دارت مروحة متكئة في أقصى الغرفة الصغيرة ذات اليمين وذات الشمال بصوت هادئ توزع هواء لطيفا إلى أقصى اليمين حتى إذا لم تجد أحدا يستقبل هواءها - كذا تخيل الفتى - عادت لتوزعه على من هم أقصى الشمال! كيف يدرك سعود أن اصبعه وقع مباشرة على زر الضوء؟ وكيف يدرك أن يده تقع مباشرة على زر المروحة؟ وأن بجانبه طاحونة القهوة الصغيرة؟ وأن التلفزيون القائم على طاولة صغيرة لابد أن يوضع عليه ما يستره عن نظر من لايستحبه من محافظي القرية حين يزورون أبناءهم، كما يفعل والد الفتى الآن؛ فما أسرع ما اختفى ذلك الجهاز الغريب الذي كم تطلع الفتى إلى اكتشاف ما يخزنه من أسرار وصور وحكايات بالأبيض والأسود !
استأذن الفتى من أبيه ليخرج إلى الشوارع القريبة متجولا ومتعرفا؛ لأن أخاه إبراهيم لن يعود من معهد العاصمة النموذجي الذي يعمل به موظفا في السنترال إلا بعد الظهر المتأخر، وسيعلم بمجيئه حتما مع صوت دبابه العنيف حين يزمجر بالنفس الأخير ليطفئه في مدخل هذا البيت الواسع، وما حان الوقت بعد، فلم ينتصف النهار، والجوع بدأ يدك معاوله في أحشاء الفتى وقد نقده والده ريالين يمسك بهما في جيبه بين حين وحين لكي لا يطيرا أو يسقطا على حين غفلة !
وقف بجانب بقالة صغيرة في مدخل الشارع المؤدي إلى حديقة دخنة الصغيرة القريبة من مسجد الشيخ، وأمامه الآن لوحة تشير إلى مكتب مجلة البحوث الإسلامية، ثم حين تقدم قليلا وجعل المكتبة السعودية على شماله عابرا مع شارع القري وكأنه يريد البطحا التفت إلى أعلى ليقرأ لوحة أخرى تشير إلى مكتب جريدة الدعوة على ناصية شارع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، كما يقرأ في اللوحات الصغيرة المنصوبة في مدخل كل شارع، ولو سار قليلا إلى حي المرقب وليس بينه إلا خطوات يسيرة لوجد بغيته؛ فهناك كما حدثه من يثق به تحرر وتطبع كل الصحف؛ الرياض والجزيرة واليمامة والدعوة وغيرها، ود لو يسمح له أصحاب هذه المجلات والجرائد بالدخول ليرى كيف تكتب المادة الصحفية؟ وكيف تطبع؟ وكيف تخرج؟ وما أشكال وسمات الكتاب؟ هل يلبسون كما يلبس الناس؟ ويتكلمون بالطرقة التي نتكلم بها؟ أم أنهم يتقعرون ويتفاصحون وينتقون كلماتهم بعناية؟ ولو أذن له والتقى أحدهم هل يستطيع أن يسأله عما تضطرب به نفسه؟ ثم سرح به خياله بعيدا جدا، ودخل في ما يشبه الإغماءة وهو واقف يتأمل الصفحات الأولى من الجرائد التي يقرؤها، مرت أمامه كالفيلم السنيمائي، فسار به الزمن سريعا وانتقل من عمر الشباب الغض المبكر إلى عمر النضج والاستواء بعد العشرين، وهو يعتقد جازما أنه إذا دخل هذه السن فلن يعجزه شيء يريده، ولن تقف أمامه عثرة، فسيكون رجلا قويا ذا عزيمة وإصرار تنهزم أمامها كلمة: مستحيل، هاهو - كما يصور له الشريط السينمائي المتخيل - في مظهر آخر وبهندام يليق بكاتب وسكسوكة محددة بدقة كما يفعل كثيرون من الكتاب، أو ليظهر بدونها في لقطة أخرى ليبدو أكثر حداثة وتثاقفا ويدخل إلى الجزيرة فيلتقي رئيس تحريرها ويبدي له رغبته في العمل الصحفي، ثم في الكتابة ليخرج اسمه جليا واضحا للعيان بجانب مقالة ترسم أمنياته في المدينة الفاضلة أو البلد الفاضل المثالي الناهض الجميل على الأصح كما يرسمه في مخيلته !
بدا له أنه سيغير كثيرا من المفاهيم، وأنه سيكون داعية إلى كل خير، وأنه سينشر فكرا إصلاحيا من خلال مقالاته قد يسهم في خدمة أمته ومجتمعه ووطنه، ولا يخالجه شك في أن هؤلاء الكتاب المثقفين قادرون على صياغة أحلام هذا الوطن، وقادرون أيضا على ملامسة أوجاع الأمة وتحفيز همم أبنائها لتلحق بركب الأمم المتقدمة، لقد حز في نفسه ما تعانيه أمته العربية والاسلامية من هوان وضعف وتمزق، وما تتعرض له بين حين وحين في مواضع شتى من عدوان وضيم، وهو غير قلق ولا يائس من أن المستقبل كما يقرأ لهذا الدين، وكتاب الأمة هم صفوتها، وهم نخبتها فعليهم إذن تقع المسؤولية كاملة في أن ينهضوا بأدوارهم، وأن يجردوا أقلامهم لإبانة الحقائق وتحفيز الهمم، ولكن أنى لاسم نكرة مجهول ليكون في صف كتاب كبار لهم محبوهم؛ بل عاشقوهم، ولهم مقالاتهم القوية الناضجة التي تكتب بأسلوب أدبي رفيع، وأنى لاسمه المجهول أن يقف أمام محررين متمرسين لهم شأنهم، يعلمون أسرار مهنة الصحافة وخباياها؟ لقد تقاطرت الأسماء أمامه وتناثرت بين يديه من مثقفي مدينة الرياض وكتاب صحفها على اختلاف أجيالهم ومراتبهم في ميزان النقد: حمد الجاسر، عبدالله بن خميس، عبدالله بن إدريس، عمران العمران، عبدالعزيز العمران، فيصل الشهيل، عبدالله نور، سعد البواردي، عبدالله السليمان، محمد الشدي، حمد القاضي، علي العمير، عبدالله الماجد، راشد الراشد، تركي السديري، خالد المالك، أمامك أيها الفتى مدينة تعج بالكلمة وتحتفل بالكتاب، فأين تجد نفسك بين كل هذا الزحام الثقافي الجميل؟ ها أنت تجد الصحف والمجلات الجديدة في مكتباتها الكثيرة، وتجد الناس هنا يتكلمون بأسلوب لطيف، ولهجة أقرب ماتكون إلى الليونة منها إلى الخشونة، فيرققون أواخر الكلمات، وينعمون بعض الحروف، حتى ليخيل إليه أن أهل الرياض كلهم متعلمون، وليس ثمة التقاء أو تشابه بين ما يسمعه الآن من أسلوب حديث يطربه وما يقع على أذنيه في قريته من كلمات قوية تقترب من الخشونة، ربما كان للتعليم أثره في هذا كله، وربما كان لتعدد اللهجات واختلاف مشارب الغادين والرائحين تأثير لطيف في رقة طباع أهل الرياض ودماثة أخلاقهم وقبولهم للغريب وسرعة إقامة الصلة مع من يفد إليهم.
عاد إلى تلك الغرفة الصغيرة في بيت الاخوان وقد ازداد لهيب الشمس يجر خطاه بما يشبه الاعياء وكأن أحلامه قد أثقلت عليه، وعناوين إخبارية في الصفحة الأولى تتقاطع مع عناوين لمقالات في الصفحات الداخلية تمر سريعا أمام عينيه، وصور الكاتبين تزين رؤوس الصفحات، وهموم تتناثر في كل صفحة على شكل زوايا وتحقيقات، وتلجلجت في خاطره أسئلة شتى: أيكتب هؤلاء الكتاب والمحررون للتغيير إلى الأفضل كما يحلم أن يفعل إذا كبر وشب عن الطوق وأصبح قادرا على قرع كل أبواب المستقبل وفضاءات الغيب؟! أم أن أحلامهم وقد نضجت واستوت غير أحلامه الصغيرة الفجة؟! وهل تحقق ثمة شيء يذكر من أمانيهم وأحلامهم؟! هاهي الأمة لازالت ترزح تحت وطأة الشتات والتخلف؟! وهاهو الوطن يحتاج إلى طاقة عمل خلاقة لينهض ويقوى؟! والذي يتم من تمدين وتحديث ليس بحجم الأمنيات والأحلام! إذن ما جدوى أن يكتب أولئك أو أن تكتب أنت أيضا في المستقبل إذا قرعت أبواب غيب الصحافة؟! طرد كل هذه الهواجس من أمام عينيه، ثم تحدث إلى نفسه بلغة أخرى نقيضة غير تلك: ما الذي يغير الوجود يافتى سوى الكلمة الحرة الشريفة؟ كيف يمكن إصلاح أمر معوج دون كلمة تقال أو تكتب بأسلوب حكيم رزين يبين الصواب ويكشف الخطل؟! دعهم يكتبون ويحلمون، واكتب إن استطعت أن تفعل حين تبلغ مبلغهم أو بعض مبلغهم، فمن الحلم الجميل يتخلق واقع أكثر جمالا وزهوا، وقد ينفتح باب مغلق بعد طول قرع، وقد تصل كلمة بصوت خافت إلى أذن صماء قبل، صحافة الرياض هي أمل الرياض وأهل الرياض إلى المستقبل، وأقلام أبناء الرياض التي تسيل حالمة ناقدة هاتفة متمنية ساخرة حينا وجادة أحيانا أخرى هي الرياض الآتية التي تتخلق كالبرعم تحت قشرة أرض خصبة أصابها غيث رضي!
مسه الجوع وبلغ منه مابلغ فتوقف مادا أحد الريالين إلى بائع عجوز في بقالة عند مدخل حي دخنة، واحتار ماذا يختار، وأدار عينيه في المعروض من البضائع والمأكولات على طاولة كبيرة أمام البائع فرأى بيضا مكوما في إناء؛ فطلب منه أربعا وناوله إياها، ولأن الجوع قد أكل منه بعض أحشائه أراد أن يطفئه ببيضة على عجل قبل أن يعود إلى بيت الاخوان؛ فأخذ واحدة وهشمها على عمود الكهرباء ظنا منه أنها مطبوخة فسال صفارها وبياضها على ثوبه وعلى العمود وتشبعت يداه بالصفار والبياض؛ فعاد إلى البائع معاتبا ومتذمرا: وشلون تبيعون البيض يا أهل الرياض وهو ما طبخ !!
ksa-7007@hotmail.com