يقف الخطيب ظهر الجمعة أمام المصلين منددا بمن يفتي بغير علم ومحذراً من الاجتراء على الكتاب والسنة بكثرة الفتاوى والإسراع إلى تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرّم، ويشدد على عظم شأن الفتوى لا سيما ممن لا يملك المعرفة الكافية والعلم المكين في علوم الشريعة وأصولها، بعد الصلاة تتجه لمنزلك تبحث عن مادة مناسبة للمشاهدة في التلفاز في تلك الفترة الروحانية فيظهر داعية أو واعظ, ويسهب هذا الخطيب أو الداعية والواعض في شان الفتوى والمحاذير التي تحيط بها وكلهم يحذرون من خطورة الخوض في الفتاوى والتسابق إليها بدون الإحاطة والتأهيل العلمي الشرعي؛ ولكنك تفاجأ أن كلا من هؤلاء في أواسط حديثه أو خطبته يبدأ بتفنيد أقوال كل من أفتوا بشأن رخص الاختلاط أو إباحته، أو جواز رضاعة الكبير بشروطها، أو إباحة الغناء على الوجوه التي قالها من أفتى بها، ثم يدلي بدلوه مفتياً أو مقترباً من الفتوى في هذه المسائل كلها دفعة واحدة أمام المأمومين أو المشاهدين والمستمعين، فأين كان النهي والتحذير السابق من خطورة الفتوى، وأين المعاني التي أوردها الدالة على الوعيد الشديد بغير علم، وأين ذهبت نصيحته في مقدمة حديثه أو خطبته للمسارعين المبادرين بالفتاوى وحثهم على تجاوز ذلك والابتعاد عنه لئلا يقعوا في الخطأ ويوقعوا الأمة معهم.
لنفترض دائماً حسن النوايا في الفتوى في هذه المسائل، وأن من أفتى سابقاً ومن يفندهم ثم يفتي لاحقاً كلهم يسعون للخير مجتهدين في تنوير الأمة وكل له أسلوبه ومنهجه، غير أن حسن النوايا وصدق الاجتهاد قد لا تكون كافية في إيضاح الحقائق، وكشف الغموض في أمور تهم الناس وتتعلق بدينهم وتمس جوانب الشريعة، ولا سيما إذا كان كل باحث أو واعظ أو شيخ يفتي منفرداً ويورد أدلة غير التي يوردها الآخرون؛ فهذا تشتيت لمفاهيم وأذهان العامة ممن لا يعرفون من الشرع أكثر مما يؤهلهم لأداء واجباتهم ونسكهم وعباداتهم اليومية، فإخلاص العمل لله ولرسوله وللمؤمنين (في رأيي) لا ينحصر في إفتاء هذا وذاك كل في موقعه أو مسجده أو محطته الفضائية، فالإخلاص يكون في جمع الكلمة على الحق ومن ذلك توحيد الفتاوى، ولا أخال علماءنا ومشايخنا ومفكرينا عاجزين عن الالتئام في حوارات ونقاشات وندوات أو حتى مؤتمرات علمية لمناقشة ما يستجد في شأن الأمة مما يمس الدين والأخلاق والأعراف والآداب العامة وما يطرأ من محدثات اجتماعية تستحق البحث والبت فيها، أما أن ينبري عالم ليفند عالماً آخر أو يدعو للحجر على كل من يفتي في مسألة شرعية، فهذا قد لا ينهي الخلاف أو يوقف الفتاوى المختلف بشأنها، وقد يرى علماؤنا الأفاضل أن قوة الأمة في اتحادها وتوحدها في وجه المحدثات ولذلك تجب المبادرة لتوحيد الكلمة وتوحيد الفتوى وإقرار مبدأ التشاور والتباحث في المستجدات الطارئة وان لا يتفرد أي شيخ أو عالم بالفتوى قبل الرجوع إلى مجمع أو مجلس أو دار للعلماء ومهما اختلف الاسم فالمقصد والجوهر هو الأهم، اجمعوا علماء الأمة قبل أن يتفرقوا فتتفرق الأمة معهم.