إلى كل من وليَ مسؤولية، وإلى كل صاحب جاه أو ثروة أو مكانة أو منزلة خادعته نفسه الأمّارة بالسوء، واغترّ بطيب العيش وزهوه، وغاب عن تفكيره تقلّب الأزمان واختلافها، وتداول الأيام وتقلبها، نسوق هذا الشاهد، لمن كان له قلب، وألقى السمع، وهو حصيف.
|
مرّ أحد الرجال ذات مرة بمكان اعتاد الناس زيارته طلبا لحاجة أو إنهاء لعمل، وطالما شكوا احتجاب صاحبه، وفظاظة استقباله، فسأل عن اسمه فقالوا له (سالما)، فأنشأ يقول له بعد أن ساءت أحوال هذا الرجل، وهجره حتى حجّابه:
|
وما (سالمٌ) من وافد الموت سالم |
وإن كثّرت حجّابه وكتائبه |
ومن كان ذا باب منيع وحاجبٌ |
فعما قليل يهجر الباب حاجبه |
في بعض المواقف والآثار عبرة وعظة، والعاقل من البشر من اتعظ بغيره، لا من اتعظّ بنفسه، وكم من خادم أحالته ظروف الحياة إلى مخدوم، وكم من مخدوم آلت به الأحداث أن يكون خادما.
|
كثير من الناس قد تقوده الشهرة، وقد يدفعه بريق المنصب إلى سوء في المعاملة، وقسوة على الآخرين، وقد يصيبه شيء من الكبر والغطرسة حتى وإن كان في أقل المواقع أهمية، وأدناها شهرة، وعادة ما تكون هذه الفئات لم ترث أمجادا تتكئ عليها، وتثق من نفسها، وهي تتعاطى مع حاجات البشر، وتدير شؤونهم وتبادلهم همومهم. والنفوس المريضة هي وحدها التي تتعالى على الناس، وتنظر إليهم من أبراج عالية، ولا تدرك أن حسن المعاشرة والملاطفة والملاينة للآخرين عمل إنساني رائع، وخلق نبيل يدل على نمو وتكامل الشخصية.
|
العربي على وجه الخصوص، خلافا لغيره من الأجناس ذو حساسية مفرطة، وعين ناقدة، وشعور مرهف، يزن الإنسان الذي أمامه من خلال أمجاد آبائه وأجداده أحياناً، ويحاكمه على ما يتصفون به من مروءة، ووفاء، وكرم، وشجاعة، ونخوة، ولذا يطالعنا أحدهم بقوله:
|
رجّال تقصيره مع الناس مسموح |
لحيث ماله بالقديمة تلادي |
ورجّال تقصيره مع الناس مفضوح |
كل يقول النار ترث رمادي |
كان ذلك الصوت المدوّي يوم أن كان للكرم، والمواقف المشرّفة قيمة ومعنى في النفوس، أو لنقل تقديره الكبير من جميع الشرائح، أمّا اليوم للأسف أمسى بعض هذه القيم الأصيلة، أو حتى الاستمتاع بقصصها، ورواياتها، ومغامرات أصحابها غائبة عن ثقافة الجيل المعاصر إلا أقلهم.
|
جاء في إحدى الوصايا الفريدة لأحد السلاطين، والتي فيها حثٌ على فتح الأبواب، ومساوئ إقفالها: (إذا وثقت الرعية بسهولة الحجّاب أحجموا عن الظلم، وإذا وثقوا بصعوبته هجموا على الظلم)، وبطبيعة الحال هذا الباب يطال عيون الراعي وعماله وسلاطينه، ومن وكّل على قضاء الناس، والنظر في أحوالهم، صغرت، أو كبرت منزلته. وكم من تصرف أرعن تتعدى الإساءة فيه ذات الإنسان إلى من هو أعلى منه. ونحن في هذا البلد تعد حكومتنا الرشيدة مضرب المثل في سياسة الباب المفتوح، بل ويعدون هذا أساساً في التعامل مع الرعية.
|
|