Al Jazirah NewsPaper Thursday  08/07/2010 G Issue 13797
الخميس 26 رجب 1431   العدد  13797
 
الأشجار تموت واقفة
د. عبدالله بن سعد العبيد

 

هكذا هي الأنفس الحالمة، تموت في شموخ وكبرياء كأشجار الصفصاف حين تذبل أوراقها، تظل صامدة عالية، تفقد أوراقها لكنها لا تفقد طموحها، يتغير لونها ولا تيأس وتتشقق أطرافها ولا تموت، تظل واقفة تحمل......

.....كبرياء الكبار وشموخ العظماء. تنتظر أملاً مهزوماً وحباً مفقوداً، فقدت قطرات الحياة في ساقها وجفت عروقها وتيبست أطرافها وتحول حوضها إلى مرمى لبقايا الآخرين من الأنفس الحية الجامدة الراكدة، كيف يشتعل الأمل ويتوهج ويحيا إن لم تنثر على جوانبه قطرات الحياة، جامدة هي حياتها راكدة، لا لون لها ولا رائحة، كالنفس الحالمة التي لا تهدأ مهما ترنحت، النفس التي أستحوذ جوانبها حلم الواقع أو واقع الحلم الذي لن يتوقف مهما امتلأت جوانبها من آهات وزفت دروبها آلام واعتصر قلبها الشوق والحنان.

غريبة هي تلك الأنفس والأشجار، تتيه في عالم غريب موحش، وتستوطن الأجساد، تنهكها بواقع الأسى وعذاب اللحظة وتتعبها بحرمان الماضي وتهادي المستقبل ولا تزال تكبلها بأصفاد الأحلام ونشوة الحياة.

تقف ماجدةّ تتوسل الزمن القاسي الذي لا يرحم، وساعته الدائرة التي لا تكل أو تتوقف، تلك الساعة التي تمر دقائقها بلا حساب، وتعبث بقلبها الطفل وخيالها العذري. تناشد قسوته أن يتوقف زمناً، تتوسل لينه أن يهدأ فكفاه بها سخرية وعبثاً وعذاباً وألماً. كلما توقف ثار من جديد وهاج بركانه ليأخذها إلى لوعة الألم وغيوم الشفق وجمود البشر وجفاف الأمل وفقدان الحياة وقطراتها.

جرحٌ غائر لا يندمل، ونزيف هائل لا يرقأ وزمن غابر لا يهدأ وساعةٌ هائجة لا تتعب وحلم ورديٌ لا يجمد وخيالٌ عذري لا يتحقق. تنتظر تلك الأشجار واقفةً في واقع مميت، تغلفه عيون مبصره سكنتها غشاوة بكل ألوان الحزن، انتظار بلا رؤية، بلا هدف، بلا بصيرة، بلا دليل، بلا عنوان. بل أصبحت رؤيتها السكون وهدفها الانعتاق من الأكبال والقيود ، بصيرتها عمياء ودليلها ضرير وعنوانها النهاية ونسقها الرضوخ والاستسلام.

شوقها إلى الحياة أضناها، وحنينها إلى النهاية عذبها، تبحث وحشتها عن أنسها، وروحها عن سعادتها، تشق غربتها طريقها في أوحال الواقع واقفةّ، ويطرق وجدانها أبواب البزوغ صامدةّ، تصرخ وحدتها في آذان صماء، ويطول انتظارها في واقع لا أعين له ولا آذان. روح صامدة هامدة مرتعشة وجلة توشك على الانطفاء إلى الأبد، ووجدان شامخ يحترق تملؤه نار توشك أن تخفت وتنطفئ. غربة خيالها اللقاء، ووحدة ترتجي السكون وحنين يبحث عن الدفء وروح تأمل الحضن.

لا عليك أيتها الشامخة، سأستجلب حلمي راجياً ألا يعاندني ولا يكابر، كيف له أن يكابر وهو الذي يجاذبني إن أهملته، وينازلني كل ما ابتعدت عني أطياف الحياة، فأنا معه في كرّ وفرّ، لا هو الذي أراحني ولا هو الذي عاش واقعه معي، وإن هربت منه فاجأني بصورته المعهودة بالسحَر وهوى بي إلى أسفل الواقع غير المعاش، لا عليكِ صغيرتي الكبيرة، سأجلبه، عله يهدئ من روعتك في ظلمة النهار وعتمة الحياة، فإن هو أراحك وأحيى ما انطفأ من وجدانك وألجم لهيب نارك وإلا قمعته وحبسته في خيال، وأرحتك من الركض والجري بين الأمواج والآفاق، وجعلتكِ تتوقفين عن تصور الأهوال ولسع الأضواء.

سأختفي بك بعيداً عن كل تلك الآلام، سأتوقف بك عن نسج تلك الخيالات وضرب وجدانك بالأسواط.

هكذا هو ثمن الانتظار والأمل أيتها الشقية، أملٌ به من نزعات الروح التي تصارع البقاء وتطارح المستقبل، انه الزمن الذي لا يرحم نفسٌ حتى في حلمها، انه الزمن الذي يتوق لرؤية النفس تصارع البقاء. انه الزمن الذي لا يروق له أن تهفوا النفس للتغيير والروح للتجديد والوحدة للونيس والغربة للتوطين.

لك أن تسعدي أيتها النفس الشقية، فلن تموتي إن لم يعطر دربك حبٌ ضائع ولن يضيرك أن تعيشي بلا هدف واضح ولن يتحقق الحلم إن استمر جرحك غائرا ونزيفك هائلا. ولن يتوقف الزمن ولن تهدأ ساعته.

وإن بقيتِ دون حب فيكفي أن تموتي بعلو وعز. إلى لقاء قادم إن كتب الله.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد