مما لا يروقني، الإقامة في وسط المدن المزدحمة وخصوصاً عندما تكون المدينة نيويورك، فلها في ذاكرتي صورة قاتمة، كوّنتها ملاحظاتي عندما كنت أمر بها أيام الدراسة وما علق في ذهني من قصص مؤلمة حدثت لأصدقاء وزملاء، ولكن تحت إلحاح بناتي وأمهن، غالب ترددي وأقمت في فندق كبير مطل على ميدان تايم سكوير الشهير، وبعد اتفاق حول عدد من إجراءات السلامة التي يجب أن يتقيد بها الجميع، ولأني أمريكي الميول والتطبع في إجازاتي، فقد استسلمت لعادتي تلك واستأجرت سيارة للتنقلات من المطار، وبها ذهبت وعائلتي للفندق الكبير في وسط منهاتن نيويورك.
مع أن الطريق من المطار كان مزدحماً وبطيء السير إلا أن الوصول للفندق كان سهلاً وميسراً بفضل صديق السفر ال(GPS)، وبكل ود واحترام قابلنا بواب الفندق الذي تولى السيارة وإنزال متاعنا، ولدى موظف الاستقبال كانت السعادة تغمرنا جميعاً، فقد كان لطيفاً وهو يعدد خياراتنا في الغرف ومطلاتها، ولكن المفاجأة كانت، عندما أتى بواب الفندق ببطاقة إيداع السيارة في المواقف وهو يقول يا سيدي إن الموقف سيكلفك (50) دولاراً في اليوم وفي كل مرة تطلب السيارة سنقاضيك (10) دولارات والإكرامية فضل من جودك، شكرته وأنا أفكر بتلك التكاليف غير المحسوبة، وبعد مداولة مع العائلة تبيّن أننا لا نحتاج السيارة فمعظم نشاطاتنا ستكون في منهاتن، لذا أعدتها للشركة المؤجرة في اليوم التالي.
وفي ذلك اليوم الذي أعدت فيه السيارة لأصحابها كان على رأس أولويات نشاطاتنا، شراء شرائح الهاتف الجوال، وفي أمريكا هناك شركتان كبيرتان تتنافسان لتقديم الخدمة مع شركات صغيرة أخرى، لذا اخترنا ما ظننا أنها الأفضل وبعد نقاش مع متخصص الخدمة - هكذا يسمون البائع حيث يناقش العميل عن احتياجاته وسلوكه الاتصالي- اشترينا منه (4) شرائح بعدد الأجهزة التي لدينا، وعندما عدنا للفندق، وجدنا أن شبكة الشركة -لسبب لا نعرفه- لا تدعم خدمة البلاك بيري، وذلك هام لنا، لذا عدنا لمكتب الشركة وشرحنا الأمر للمسؤول هناك، فشاركنا الاستغراب وبعد الاتصال بخبراء الشركة، كان الجواب أن الشركة لا تدعم خدمة البلاك بيري للكروت مسبقة الدفع، لم يقتنع المسؤول برد الخبراء وتحمس لحل الإشكال بطريقته، ولكنه لم يوفق فطرح عدداً من الخيارات أمامنا منها أن نسترد ما دفعناه ونرد له الشرائح، وهذا ما حدث فعلاً، ثم ذهبنا للشركة الكبيرة الأخرى وقابلنا متخصص الخدمة لديهم والذي أكد أن خدمة البلاك بيري متوفرة لديهم وعلاوة على ذلك وطالما أننا عائلة واحدة فلنا حق الاشتراك برسم واحد يشمل (3) شرائح بسعر واحد مخفض، ونشتري أخرى بسعر الفردي وبذلك سنحصل على خاصية الاتصال غير المحدود وكذلك الرسائل والبيانات غير المحدودة «يعني الاتصال مفتوح المدة والعدد على جميع الشبكات» والتكلفة لا تتعدى ما يماثل (350) ريالاً للشريحة، وعندما علم أن لدينا إشكالية أخرى فيما يخص الاتصال الدولي قال عليكم بالولوج للإنترنت وتنزيل برنامج من شركة متخصصة يمثل واجهة استخدام يمكنكم الاتصال بالسعودية مقابل (14) سنتاً للدقيقة.
سررنا بتلك الخدمة والتفاعل مع احتياجاتنا من قبل البائع والرغبة التي كانت ظاهرة لديه لإرضائنا كعملاء.
في اليوم الثالث لقدومنا منهاتن، اكتشفنا مطاعم ليست كالمطاعم، فهي بقالات ولكن جزاء كبيراً منها مخصص لعرض الأكل المطبوخ والسلطات والسندوتشات، ولكل منها درج لدور علوي مجهز بطاولات للأكل، والأكل لديهم يباع بالوزن فمن يريد أن يأكل أكثر من غيره فسيدفع أكثر من غيره، وهذا يشعر زبون المطعم البقالة بالعدالة في التكلفة ومعقوليتها، هذا التوجه لكسب رضى الزبائن يواجهه مناقض آخر، فعلى جوانب الجادة السابعة -أحد الشوارع الرئيسة في منهاتن- تتناثر محلات لبيع تذكارات المدينة من مجسمات وقمصان مطبوعة وأجهزة إلكترونية وكاميرات، وجل البائعين في تلك المحلات هم من الجنسية الإسرائيلية واليونانية أو أن أصولهم كذلك، ولديهم مهارة فائقة في سلب الزبون ما لا يستحقون، فالأسعار لديهم متقلبة حسب لكنة، فكلما تبين ضعف اللغة الإنجليزية لدى الزبون كلما ارتفعت الأسعار، ومع أن على كل سلعة ملصقاً سعرياً إلا أن ذلك السعر يتم خصم نصفه عند أول مفاوضة وإذا أصر الزبون على تخفيض السعر، يبدأ البائع بممارسة فن إهانة الزبون وتحديه بأنه لا يفهم هذه السلعة أو أنه ليس أهلاً لها ونحو ذلك، وإذا قرر الزبون مغادرة المحل دون الشراء فعليه تقبل إهانة من النوع الثقيل يلقيها عليه البائع ولا يبالي.
في اليوم الرابع كان عيد الاستقلال الأمريكي (الرابع من يوليو)، ومنذ الصباح كان الناس يتبادلون التحايا والتبريكات بحلول ذلك اليوم، لم نستطع رغم الإصرار أن نحصل على تذاكر ركوب أي من السفن التي ستبحر وسط نهر هدسون عند إطلاق الألعاب النارية الهائلة والتي تتعهدها شركة مبيعات التجزئة المشهورة ميسيز (Macys) وتسمى باسمها، ولكن بجهود موفقة حصلنا على أربع تذاكر دخول ومشاهدة الألعاب النارية من فوق سطح مواقف سيارات الرصيف البحري (83) على نهر هدسون، وقد حضرنا مبكراً حيث كانت أعداد هائلة من أهل نيويورك وزوارها تتجه لذات المكان، ومع أن الأعداد كبيرة فقد كان التنظيم سيد الموقف، وعندما صعدنا لسطح موقف السيارات، هالنا عدد الكراسي المصفوفة وترتيبات المشروبات والأكل، فقد كان هناك ما يقارب (5000) كرسي، وعند الغروب كان عدد الناس هائلاً فوق ذلك السطح، يرقصون ويغنون ويلوحون بالأعلام في احتفال مهيب، منهم الأبيض ذو الأصول الأوروبية والأسود الإفريقي الأصل والآسيوي صيني الأصل و ذوو الأصول اللاتينية، كلهم يغنون لأمريكا بلادهم، كلهم متساوون في الحقوق والواجبات، وكلهم يساهمون في صنع مستقبل بلادهم، لم أستطع أن أخفي مشاعر الغبطة لهم، بل جاشت مشاعري لأتمنى أن نكون في بلادنا مثلهم، ننعم بحرية تماثل حريتهم وفخر ببلادنا يماثل فخرهم، وعزة لنا وأهلنا تماثل عزتهم. وتذكرت كيف يمر يومنا الوطني ونحن في جدال حول، هل يجوز أو لا يجوز أن نحتفل به؟، ناهيك عما يجب أن يعني لنا ذلك اليوم.
في اليوم الخامس وهو اليوم الذي كتبت فيه هذا المقال، تبلور لدي انطباع جديد حول هذه المدينة، فلم تعد المدينة المخيفة التي يروع أهلها المجرمون وعصابات المافيا، فقد تحولت لمدينة تعج بالسياح والزوار في كل وقت، ليلها كنهارها فلا يخشى زائرها شوارعها الخالية أو جنباتها المظلمة، والسبب يرجع إلى الانتشار الواضح للشرطة فلا تكاد تجد شارعاً يخلو من سيارة شرطة أو عربة شرطة صغيرة ورجال الشرطة منتشورون بين الناس منهم الظاهرون باللباس الرسمي ومنهم المتخفون باللباس المدني، كما أن المدينة تبدو جميلة ونظيفة حتى شوارعها الجانبية، لقد شعرت لأول مرة بإلفة لمدينة نيويورك، وقد بقي لي يومان آخران فيها ربما تتعزز تلك الإلفة فتصبح نيويورك إحدى المدن المفضلة عندي.
M900m@gmail.com