أكل الصحابة الضب على مائدة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأكله معهم، والإباحة هنا لمن أراد فعل أمر من أمور الدنيا ولاتلزم من لم يرد القيام بالأمر المباح، أباح الله سبحانه التعدد وحدده بشروط وكثير من الرجال لايعددون وهم في الوقت نفسه لاينكرون على المعدد تعدده مثلما أن الرجل المعدد لاينكر على من لم يعدد فعله، فالإباحة حكم يندرج من باب التوسيع على الناس ومنحهم فرص الاختيار فيما يريدون أن يكونوا عليه.
الفتاوى التي تبيح بعض الأمور فيها سعة للناس وهي غير ملزمة شرعا لمن لا يجد في نفسه ميلا إليها.
لكن فائدة العلم بالإباحة تأتي في عدم الإنكار على من فعل أمرا حكمه الإباحة حتى لو رأى البعض حرمته أو كراهته، لابد أن نعود أنفسنا على عدم إنكار إتيان غيرنا للمباح لأننا لانفعله أو هو لايناسب عاداتنا أو تقاليدنا.
الوعي في الخطاب الديني الذي نسعى جميعا لبلورته في كافة صيغه ومنابره هو التفريق بين ماهو مقبول شرعا وفيه أخذ ورد حتى لو كان مرفوضا اجتماعيا لأن المحك في الإنكار ليس في المنظور الاجتماعي بل هو في المنظور الشرعي فالثابت والقار والمتفق على حرمته هو الذي يستحق الإنكار أما ماعداه فلا يعني أنني لا أميل إلى أمر ما لحسابات اجتماعية أو فردية خاصة بي أن أنكر على غيري القيام بهذا الأمر وأدعي أن إنكاري جاء من وازع الغيرة على الدين وحرماته.
لنفرض أن (س) من الناس لايحب أن تعمل زوجته أو ابنته وهن من اللواتي اقتنعن بحملة ولي أمري أدري بأمري (!!؟) ورضين بعدم العمل وهن قانعات وسعيدات، يلزم هنا تقدير اختيارهن وعدم الإنكار عليهن أو الحجر على آرائهن فهذا خيارهن ولهن كل التقدير.
وفي ذات الوقت لنفرض أن (ص) من الناس مقتنع بدور المرأة في التنمية والشراكة المجتمعية وهو يساند زوجته أو ابنته لإكمال تعليمها والدراسة وتحقيق طموحاتها والعمل طبيبة أو صحافية أو أي عمل آخر يتطلب أن تلتقي وتتبادل المعلومات مع زملاء لها في أجواء مفتوحة وجماعية ومنضبطة بالاحترام والقوانين واللوائح والأنظمة، يلزم هنا تقدير هذا الاختيار أيضا لأنه مباح وغير ملزم لمن لم يرده مثلما أنه غير قابل للإنكار لأن فيه سعة وأخذ ورد.
كثيرون يناسبهم الخيار الأول وكثيرون يناسبهم الخيار الثاني وبينهما كثيرون يريدون خيارا آخر مثل العمل في أوساط نسائية خالصة كما أن هناك من يفضل تلقي التعليم في جامعات أجنبية.
البشر ليسوا نسخا متشابهة وليسوا أدوات شطرنج يتحركون وفق ريموت كنترول وصيٍّ عليهم!!، ولو كان الأمر كذلك لما سقطت الشيوعية ولظلت قائمة، لكنها سقطت لأنها ألغت اختيار الفرد وجمدت مهاراته وقدراته وحولته إلى رقم مستنسخ من ملايين الأرقام التي تشبهه.
ميزة الإسلام أنه رفع الوصاية على الفرد وألزم كل إنسان بمسؤوليته تجاه نفسه ويحاسب عليها وفق تعامله واختياراته {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} سورة الإسراء (13).
حتى في أمر المحاسبة ثمة سعة ومراعاة لطاقة الإنسان وسقف قدراته ورغباته {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} سورة البقرة (286) بمنحنا المشرع سبحانه كل هذه السعة والسماحة ونضيق نحن على أنفسنا، أمر يثير الغرابة حقا؟
F.F.ALOTAIBI@HOTMAIIL.COM