سماء مساءات الرياض في كل المواسم ناطقة، تتوهج جمالا أخاذا يذكِّر الخفق بالقوافل، وبالرُّحل في صحرائها، وبمسارات الحدائين، وبمضامير الجياد، وبمضارب الشعراء، وبمواقد القِرى تفضح نيرانها نباتات روضات أرضها الشاسعة الغناء، المتسترة بخفر سواد لياليها الحانية، وبلمعة حصاها في مواسم المطر، وبشذى عشب ربواتها، وبوهج سطوح الماء في أوديتها على شعاع قمر، سماؤها الصافية قريبة النجوم، منبسطة الجمال والفتنة...
ناطقة بنسائمها اللطيفة، وهمهمات نخيل أرضها وأشجارها، ومدى النظر في فضاءاتها،..
سماء مساءات الرياض، في شتائها عميقة جاذبة، وفي خريفها باعثة للأخيلة، محرضة للبوح، وفي ربيعها مغرِقة في جوف نَداها ونداءاتها وعطورها ونسائمها، وفي صيفها حانية على الزمهرير بعليل هوائها، وانبساط ثراها، وجاذبية آفاقها..
سماء مساءات الرياض حجبتها الناطحات، ومرتفعات الأبنية، وإشعاعات النيون والألوان، وأخفت أصداء هفهفة نسائمها، وأصوات حفيف هوائها أبواق العربات، وهدير الآلات، وضجيج البشر، وفقدان حاسة التذوق لجمالها، والانبهار بفتنتها،..
في هذا الصيف امتدت من الشمس أنفاسها فزيد على سماء مساءات الرياض ما سلبها وداعتها، وحجب عنها نداها ونداءاتها، وقد تكور الناس حيث برودة المكيفات، واحتموا عن السخونة المفرطة بنسائم مصطنعة، تركوا سماء الرياض مختفية خلف الأبنية، يلفح لياليها هواءٌ حار...
لم يعد لحلم الراحلين أن يمتد بعد أن صمت الحدَّاء، وتوقفت عند الأطلال القوافلُ، ولم يبق للرياض من مساءاتها غير سماء بعيدة، ليست مرمى للمتعة والتأمل والأخيلة كما تمتع الأسبقون بجمالها..