من يقارن بين ردود الأفعال على فتوى العبيكان حول إجازة رضاعة الكبير، وبينها حول فتوى الكلباني في إباحة سماع الغناء، يكتشف الكثير من ذهنية التفكير لدى مجتمعنا، ففي حين تراوحت التعليقات بين السخرية والعتب على إثارة موضوع رضاعة الكبير، كانت التعليقات والرسائل الموجهة إلى الكلباني عنيفة ومسيئة إلى شخصه، لا تجادل موضوع الفتوى أو مستندها، بل تمس إنسانيته وأصله وفصله، إلى درجة وصفه بأبشع الصفات التي أنأى عن ذكرها في هذه الزاوية، وذلك من خلال موقعه الإلكتروني، بل قد يصل التطرف بأحدهم أن يعتبره مخطئاً ويستحق القتل، وأنه داعية من دعاة جهنم! والعياذ بالله.
لماذا كل هذا الاحتقان؟! ومتى نتخفف من اندفاع المريدين، الذين يرددون ما يسمعون، دون أن يفقهوا شيئاً، ودون أن يقرأ أحدهم عن المسألة التي يريد التحدث عنها، أو أن يتدبّر فيها؟ هؤلاء الذين أصبحت ثقافتهم السماعية هي زادهم الأول والأخير، وليست حادثة محاولة اغتيال الروائي الراحل نجيب محفوظ بعيدة عن الأذهان، التي جاءت من متهوّر لم يقرأ لمحفوظ حرفاً واحداً، لكنه يسمع...! تلك هي أزمة مجتمعات العالم العربي وعنوان تخلّفها، أنها تسمع ولا تقرأ، أنها تتبع ولا تبدع، مما يجعل معظمها من الدهماء وذوي الرأي الواحد القاطع، حتى لو كان حول مسائل خلافية.
يجيب الكلباني محمّلا بوعي العمر والخبرة والمرحلة، على أحد الصبية الذين عاتبه غاضباً: لماذا تجيز الغناء؟ بالقول: هل قرأت في المسألة وتعمّقت فيها؟ قال:لا، فأجابه: يا ولدي لا تتبرمج من الآن، وتكون بنفس معاناتنا، اجعل لك أفقاً واسعاً.
كم هم كثر هؤلاء المتبرمجون لدينا! وكم نحن بحاجة إلى المئات، بل الآلاف من برامج الحماية وجدرانها الحصينة كي تحمي عقولنا من السير صمّاً وعمياناً خلف شخص أو فكرة! كم نحن بحاجة إلى جعل الأفق واسعاً ومفتوحاً كصحراء بلا أفق، وليس كصحراء جرداء موحشة!
البرمجة، والتبرمج لدينا، ليس في تتبع فتوى ما دونما تمحيص واجتهاد، بخاصة المسائل الخلافية، بل البرمجة خطرة على عقل كل من يملك فكرة ويقاتل الآخرين لأجلها، يسخر منهم ويخاصمهم بفجور، ويكفّرهم وقد يبيح قتلهم لأنهم لم يوافقوا على فكرته، أيا كانت هذه الفكرة، فكثير من الشعوب انقرضت وتضاءلت حظوظها في الوجود والتقدم وإعادة قراءة أفكارها، بسبب هيمنة الأيديولوجيات وسطوتها.
الطريف، أن معظم الساخطين على الشيخ هم ممن اعتبروه في السابق إماماً مجدداً، ليصبح في غمضة عين لا علاقة له بالفتوى ولا يصلح لها، وكأن الأغلبية تتنافس على التشدد والتضييق على الناس، فكلما كنت متشدداً أصبحت أكثر ثقة ومصداقية لدى الآخرين، وضمنت لنفسك مكانة وهيبة، ليس على مستوى المشايخ، بل على المستوى اليومي للناس العاديين، فالشاب الصغير الذي يظهر تشدداً وتزمتاً يستطيع أن يهمّش حضور الشيخ العالم، ويقلل من قيمته بوصفه مفرطاً في أمور الدين. الغريب أن الشتائم والسباب التي بلغت موقع الشيخ، قد قام بنشرها بثقة وحلم، وأجاب عن بذاءتها وسخريتها بأناة ووعي وصبر، وهذا ما قرأه معظمنا، أما أمر الرسائل الواردة إلى جواله الشخصي، التي تنهش فيه، فلم نعرف عنها سوى ما أشار إليه بأنها جاوزت حدود الأدب واللياقة! ماذا لو دار جدل مفيد حول الفتوى يستند إلى أدلة وبراهين، بدلا من أن تتحول السهام إلى الشخص ذاته، بدلاً من حديثه ومستنداته وبراهينه!