جبل الله النفس البشرية على العجلة، لكنه حذر منها أيما تحذير: «خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون». فالعجلة في أصلها مذمومة، وهي آفة ابتلي بها كثير من الناس، مع أن الواجب أن تؤخذ الأمور بحكمة، وروية، وهدوء؛ من أجل اتخاذ القول الصائب، والفعل الصائب. ولذا فإن ما ظهر على الساحة - هذه الأيام - من فتاوى مضطربة، وآراء شاذة، بعد أن تصدى لها من هم ليسوا أهلاً لها، هو نوع من الجهل، ونتيجة طبيعية للاستعجال، - خاصة - ممن لم يتأهل منهم علماً وعملاً لهذا المنصب العظيم، فتضطرب عندهم الثوابت والأصول. مع أن الله - جل في علاه - شدد في هذا الأمر، فقال: «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب».
عجبت كثيراً حين رأيت هذه الجرأة على الفتوى، من أناس ليس لهم قدم راسخة في تحصيل العلم، فأصبح كل أحد يفتي في تفاصيل أمور الشرع، فأساء - بعضهم - إلى الفتوى، بسبب الجهل بأصولها، وصحة الإفتاء. وحول هذا المعنى، يقول ابن القيم - رحمه الله -: «التبليغ عن الله - سبحانه - يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه. وليعلم المفتي عمن ينوب في فتاواه، وليوقن أنه مسؤول غداً، وموقوف بين يدي الله». وكان الإمام مالك - رحمه الله - يقول: لا أدري في أحوال مخصوصة، منها: في الحالة التي لم يتوصل فيها إلى حكم في المسألة، يطمئن إليه. وفي الحالة التي يرى فيها قرائن على السائل مانعة من إعطاء الجواب، لما فيه من مفاسد. وهذا الإمام أحمد - رحمه الله - يقول: «لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا، حتى يكون فيه خمس خصال: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية؛ لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور، وأن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة. وأن يكون قوياً على ما هو فيه. وعلى معرفته الكفاية، وإلا مضغه الناس، ومعرفة الناس».
إن عدم الاستعجال بالفتوى، والنظر إلى مآلات الأمور المترتبة على هذه الفتوى، والرؤية الشاملة - المتوازنة والمستنيرة -، وبذل الجهد في الوصول إلى الحق. مع العناية بالدليل الصحيح من الكتاب والسنة، وتوضيح قواعد الشرع. إضافة إلى التروي والدقة في إصدار الأحكام الشرعية، وتحديد مناط الجواب، مطالب مهمة، ولا شك. وهي المعاني التي يدور حولها كلام السلف - رحمهم الله -.
بقي أن أقول: إن كثيراً من أهل العلم، يحسب لهم ترك الفتوى في بعض المسائل، كمسائل الطلاق، وإرجاعها إلى المفتي العام. وكذا المسائل العامة التي تحتاج إلى اجتماع أهل العلم؛ للبت فيها. ومثل ذلك الاجتهاد الجماعي المتمثل في المجامع الفقهية، وهيئات الإفتاء، ومراكز البحث العلمي؛ لتتسع دائرة العلم، وتزداد حلقة المشورة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن ثقة الناس بعلمائهم الكبار - أهل الهدى والورع والاستقامة والعلم الشرعي - هو محل اعتبار واعتزاز، من الذين يوازنون بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، وإثبات أن لله حكماً في كل حادثة. كما أن اعتماد آلية واضحة لضبط الفتوى في ظل الانفتاح الإعلامي، أصبح ضرورة ملحة، - لاسيما - وأن الأحكام الشرعية، منها ما هو مبني على اختلاف الظروف الزمانية والمكانية. ومنها ما هو مبني على اختلاف العوائد.
drsasq@gmail.com