قالت لي الأيام تتسارع في خطوها، يبدأ الأسبوع وما نتنبّه إلاّ قد انتهى وأقبل التالي،.. قلت لها: والناس تتوقّع أنها بحسابها قد ألمت بعدد الأيام والشهور والسنين، فالمفارقة الكبرى هي: أنّ اليوم الواحد عند الرب كألف سنة مما نعد،.. غير أنّ هذا النظام الرقمي يعين الإنسان على أموره، ويسيّره نحو مساراته دون تيه.., تعينه على ذلك أنظمة الكون العظيم التي ليس له في شؤونها حول ولا قدرة على التغيير، فالشمس والقمر يتعاقبان لا يزلان، بآية الليل الذي ينسلخ عنه النهار، وهما علامتان للإنسان كي يتبع بهما حركة الوقت, ويعد أيامه وشهوره وسنيه، بعد أن منحه الله تعالى عدد الشهور في محكم تنزيله، ليعمل عقله، ويحرك ذهنه، ويوظف مداركه بالملاحظة ومن ثم التفكير، الذي يعقبه العمل...
قالت: مواهب الإنسان كثيرة، ألوانها عديدة، منجزاتها ثرة، جعلت من وقت الإنسان فوق الأرض عملاً دؤوباً، وحركة نشطة، حتى قرب البعيد ونطق الحديد، والتمّ شمل البشر تقارباً في كل شيء، قلت لها: وأي الهبات أجدى وأثمر..؟ هل الآلة تحرك النبض..؟ أم هل هي التي تؤلف القلوب..؟ أو هي التي تنمي الخلُق..؟ أو هي التي تجعل من كل يوم ينهض فيه المرء من مرقده يوماً جميلاً ينتظر فيه الكلمة الطيبة، والعضد الصادق، والتكافل الحميم، والمعروف الراقي.., فتهدأ فيه هواجس الخوف من ريح ٍلا تُبقي، وجَزْرٍ لا يَذر، وتسكن فيه نفس من فقر لا يقيم ظهراً، ووجع ينهش لا يُسْكتُ أنيناً، ويتقي فيه نفساً لا تشبع، ومرضاً لا يبلى..؟ فالريح ليست الريح من هواء عاصف، والجزْر ليس عند شاطئ بحر من ماء، والفقر ليس في جيب خاو، والوجع ليس ما يصيب عضواً في جسد من طين، والمرض ليس داءً في عظم ولحم.. قالت: يالله من هذا الهدير الموجع الذي فتحت شلاله فسحقني، وهزّ مرقدي، وأيقظ غفوتي، قلت لها: الأيام تتسارع والإنسان يقف طويلاً متخلفاً عن حركتها، فلا هو كاسب في وعي، ولا هو مفرط في سالب... إنه يعرف كيف يعدّ الأرقام لكنه يجهل كيف يقرأها... ويعرف أسماء الأيام لكنه لا يعي كيف يستوعبها، وتمر به نبضات الزمن لكنه لا يدخل في قلبها، إنه على هامش هذا الكون الكبير مثل ما هي الجبال الشواهق عند النظر إليها من علو طائرة في أول سعة الفضاء تحلق, كيف به هذا الإنسان حين يرى الجبال من هناك ذرّة أو يكاد لا يراها كلما ارتفعت الطائرة..؟ كيف به يرى هذا الجسد الذي يحتويه..؟